بازگشت

الخوارج و نظرية الخروج


في عبارة مأثورة يقول أميرالمؤمنين (ع) لا تقاتلوا الخوارج بعدي، فليس من طلب الحق فأخطأه كمن طلب الباطل فأدركه).

هذه كلمة تعبر أحسن تعبير و أصدقه، عن مقدار احترام علي (ع) الخصومه السياسيين، اذا كانت خصومتهم قائمة علي مبدأ حقيقي و عقيدة موفورة و كرامة و دين. ثم هو يزيد في تقويم هذه الخصومة و ينظر اليها نظره الي شي ء نبيل جدير بكل تقدير. و العجيب أن يتسع صدره العظيم الخصومة أقضته و هيأت الخصمه سبيل الظفر، لأنها تقوم علي شعور صادق و تزود بحاسة مخلصة. و لكن ليس ذلك بعجيب عند ذوي المشاعر الصادقة التي تعمل للحق، و تجاهد في سبيله، و تضحي لاعلاء كلمته. ثم نراه في الكلمة نفسها يبدي امتعاضه وازوراره النفور ممن يركب متن المنازعة و يلح لغرض أو هوي. فهو لا يخدم مبدأ و لا يدافع عن


قضية و لا يحامي عن اجتهاد مخلص. و انما يتمادي جموحا، و يطاول طموحا و يغالب شنآنا. و في لحنها تدلنا علي موضع النبل في نفسه و علي فطرة التقويم للمصارعة في الحق. و هي خلة الزم ما تكون للزعيم المسيطر، اذ بذلك يترك للآخرين حرية الرأي و لا يستضيق الا بمريب.

هذا بعض من عناصر علي (ع) الكريمة النادرة التي جعلت المصطفي (ص) يغرس في تربة نفسه العالية الزكية نواته السماوية، ليعطي به ثمرا أي ثمر، و يجي ء الوحي و التنزيل مشروحا علي لسانه.

ما لنا و للحديث عن علي (ع) فيما يخرج عن حدود تشخيص الأسباب التي أدت الي الزلزلة فالبر كان.

و نستقبل الآن درس نشوء نظرية الخوارج التي لا نشك في أنها منتزعة من صميم الفكرة العربية، و ظللت كذلك و ما اختلطت بأشكال غريبة عن المحيط. و قد انبنت في اكبر ظني علي استشعارات نفسية، كبر عليهم معها أن يرضخوا للتحكيم، بعد تقدمات وجهوها في مدافعة الباطل، و بذلوها رخيصة طيبة في سبيل الله الذي لم يخالجهم شك في انه كذلك؛ و التحكيم معناه أن للخصوم شبهة حق، و هو ما لا يسمحون لأنفسهم بأن يمر طيفا في الخيال أو خيالا في النفس.

و لا أدل علي هذا من أنهم يتولون عليا (ع) الي ما قبل التحكيم. و نحن اذا علمنا ان عليا لم يكن من رأيه بل أكره عليه، و اذا علمنا أن نظرية الخوارج مبالغة في انكار هذه الحكومة،خرج لنا أنها تطرف و اغراق في نظرية علي (ع)،أخذت بعد ذلك صوغا دينيا، و قامت علي شبهة من الحق، و يشهد لهذا الذي ندعيه ما جاء في كتب التاريخ (أنه لما كتب شروط الصلح عاد معاوية بجنده الي الشام، أما جند علي فان الاشعث بن قيس خرج بكتاب الصلح يقرأه علي الناس و يعرضه عليهم يقرأونه حتي مر به علي طائفة من بني تميم، فيهم عروة بن أدية و هو ابن ابي بلال، فقرأه عليهم قال عروة أتحكمون في أمر الله الرجال؟ لا حكم الا الله الخ)، و اذا أوغلنا في درس شخصيات الخوارج، وجدنا أكثرهم


من الرجال الذين عرفوا ببغض معاوية و الاستخفاف به الي حد منكر، قبل الفكرة ذات الطابع الخارجي الخاص، أمثال شبث بن ربعي التميمي،، فمما لا نشك فيه أن فكرتهم كانت وليدة الحمية للرأي و الانتصار للنفس.

و في الحق أن الخوارج قبل الخروج، كانوا أكثر ما يعرف اخلاصا لعلي (ع)، و قد ظل له في أنفسهم فراغ كبير، و لكن الفكرة الجديدة تركزت عندهم، حتي طغت علي كل مناطق النفس و معالمها، و راحوا منها تحت تخدير و اعصار.

و بذلك يتضح لنا أن التحكيم أوجد أحزابا ثلاثة في جند علي (ع) (أ) حزب مشتط في قبوله، و علي رأسه الاشعث بن قيس و أبوموسي الاشعري و هو يضم الخائنين لعلي (ع). (ب) حزب متطرف في رفضه، و علي رأسه عبدالله بن وهب. (ج) حزب معتدل لا يرفض التحكيم اذا قام علي اعتبارات صحيحة، و علي رأسه علي (ع).

و عندنا أن هناك أسبابا أخري أعانت علي نشوء هذه النظرية، و من أهمها اعتزال طائفة من الصحابة و قعودهم عن المبايعة و الدخول في جماعة المسلمين. فسهل للناس سبيل الانفراد بالرأي. و لا يفوتنا أن نذكر الان أن الخوارج الذين أخلصوا في أوليتهم لعلي (ع) عادوا فصرعوه.

و يهمنا أن نسجل احتياط هذا الامام الفذ للدين و أهله، و قد رأي في مصرع عثمان (ض) سابقة عاني المسلمون من شرها كثيرا، و استغلها أرباب الهوي أقبح استغلال، و قد خاف أن يقوم حزب له هذه الشارة و الطابع بالنسبة اليه فيطالب بدمه، فقال و هو ينظر الي المستقبل المظلم نظرة الحاني و المسلم الواله من أن تمزق هذا الدين زوبعة الاعاصير. فقال (يا بني عبدالمطلب، لا الفينكم تخوضون دماء المسلمين، تقولون قتل اميرالمؤمنين، لا تقتلن بي الا قاتلي انظر يا أبامحمد اذا أنا مت من ضربته هذه فاضربه ضربة بضربة) و كذلك كانت خاتمة هذا الامام الكبير التي عبر عنها أحسن تعبير بقوله (ع) (ليعظكم هدوئي و خفوت اطرافي، انه أوعظ لكم من نطق البليغ).