بازگشت

حكومة الخلفاء


لم تبعد حكومة الخلفاء عما كانت عليه في زمن النبي (ص) الا بمقدار ما اتسع به الظرف، و لقد اتخذت ناموسها الاعظم في حكومة الرسول (ص) فلم ترفط باتباعه. علي أن هذا الانتهاج كان الناس مسوقين اليه بدافع من الايمان الذي لم يفقد حدته و لم تخمد سورته، و لم يفارقه أسره و سيطرته، فلم يكن بد من الأخذ في هذا السبيل و التنور بهذا الوضح الباقي.

و اذا كانت حكومة الخلفاء هي حكومة القرآن، فمن الغلط الظن [1] بأنها كانت حكومة (ثيوقراطية) هذه الحكومة التي تصدق في مفهومها الاصطلاحي علي نظرية الخوارج في الحكم، و يبعد هذا الوصف شيئا فشيئا عن حكومة الخلفاء، و ان كان بينهما شبه صوري أكيد. و هذا سر المغلطة التي وقع فيها من ظن أنها من هذا النوع؛ و الظن المذكور قديجد قوته في مثل هذه الاضافات، حكم الله، مال الله، جند الله، التي كانت سائدة علي ألسن الناس في ذلك العهد. بيد أن الشواهد و النصوص، و الوقوف علي معقول الصحابة بهذا الخضوص، لا يجعل لهذه الاضافات معناها الظاهر الا علي ملابسة.


و من المهم أن نعرف وجهة نظر الصحابة في الحكومة الزمنية و تصوراتهم عنها، و ربما كان أوضح شاهد يعرفنا ما نتنصب لعرفانه، الاحاديث التي دارت في سقيفة بني ساعدة، و قد كان من منطق أنصار أبي بكر (ض)، أن النبي (ص) و كل اليه أمر ديننا فهلا نكل اليه أمر دنيانا.

هذه الفقرة الموجزة تشرح [2] لنا امرين:

(1)ان ممارسة الامور الدينية شي ء آخر غير ممارسة الامور الزمنية فلهما مفهوم كما لمانعة الخلو التي تجوز الجمع و لا تلزمه.

(2)ان السلطان الزمني، يثبت بقياس الأولي لمن تجتمع فيه مؤهلات السلطان الديني.

اذن فمعني هذه الاضافات شي ء آخر غير ما هو الواضح، و هي مبنية علي تصور يبعد كثيرا عما يتبادر. و المعني في هذه الاضافات عند نظري، أن الحقيقة التي لا يتفاوت الناس فيها، و التي يجتمعون عليها في استواء، هي الالوهية فتكون ظاهرة شعبية شائعة «اذا صح لنا هذا التعبير» و هي بعد أدني الظاهرات الي هذا القصد. فكان ضروريا اذا أرادوا التعبير عن الحق الذي يتوسل اليه كل شعبي بشعبيته فقط، أن يضيفوه هذه الاضافة.

فجند الله معناه جند الجميع لا جند الملك، و مال الله كذلك مال الجميع لا مال الملك، الي آخر هذه الاضافات التي يتسق عليها المعني في تقرير غرض جديد، و هدم غرض سابق.

هذا ايضاح تشهد له النصوص، و تناصره الاخبار، و لسنا منه الآن بسبب،


و لنلتمس في حكومة الخلفاء المناحي التي نظن أنها مهدت الي عمل الاضطراب و اثارة الخواطر، و قدمت مادة الانقلاب الكبير. و سنسوقها في سرد يتخلله بعض الشرح و هي تجي ء في امور:

(1)الاختلاف [3] علي البيعة يوم السقيفة، و امتناع فاطمة (ع) منها و آل هاشم عموما. كان له صدي عكسي ولد عند البعيدين شيئا من الشعور بالاستهانة، و جرأهم علي الانتقاض و الخروج و التمرد. و ربما شهد له أن ارتداد العرب كان بعد يوم السقيفة بعشرة [4] أيام.

(2)أخذ آل البيت بالشدة جعل لهم أنصارا، و فئة تتربص لهم و تفترص الفرص لصالحهم.

و هذه الشدة تصيب بلا ريب وترا حساسا من عامة المسلمين قاطبة، و بالأخص في حياة السيدة فاطمة (ع). و كأن ابابكر (ض) أدرك هذا ولمسه بالفعل في آخر أيامه، حتي قال في (رواية المسعودي) ثلاث فعلتها ووددت اني تركتها، وعد في جملتها تفتيش بيت فاطمة، و ذكر في ذلك كلاما طويلا (و في رواية الطبري) أظهر أسفه علي أنه لم يعطها فدكا.

(3)ديمقراطية الحكومة الي حد نفي عنها صفة الحكم، و هي ظاهرة تقلل تقلل من احترام الحكم و رهبته، و تسهل الخروج عليه و التآمر ضده. فلم تكن الحكومة ديمقراطية علي وجه التحديد، بل تزايد فيها اعتبار الديمقراطية، الي درجة انتفت معها عناصر السلطة الا في الحدود المنصوص عليها في القرآن و السنة.


(4)التهور مع التيار الرغيد، و الاشتطاط في بلهنية العيش، و التظاهر بأسباب [5] الثراء و التزيد من الثروة. و هذا ما جعل العرب طبقة ارستقراطية بعض الشي ء، و قوي هذا المظهر كثرة الموالي في ذلك الحين.

و هنا يبدو شكلان مختلفان أشد اختلاف، مظهر الحكومة الذي هو ديمقراطي مبالغ، و مظهر الشعب الذي هو استقراطي مغرق، مما ندرك معه أن التواصل كان مفقودا علي وجه تام، و التفاهم معدوما علي وجه محقق.

(5)قيام دعاة وسط هذا التيار، لتحويله الي وجهة الخير، و الرجوع بالناس الي المثل الصالح الاثري الرسولي، أمثال أبي ذر و رافع بن خديج. و في نظري أنه كان لهؤلاء الدعاة أكبر الاثر في تطوير الحياة الاجتماعية و تغيير النظر الي الاشياء؛ و قد أحدثوا و لا ريب تيارات عكسية قوية في مد التيار الطاغي، كما أحدث دعاة الحكمة في عهد (روما) القديمة حين كانوا يظهرون في أيام الزينة و مباهج الناس بملابس التقشف و الزهادة ناصحين محذرين، ليكبحوا من غلواء الطغيان، و يضعوا حدا لاستشراء الفساد بين الجماعة. و الذي ساعد دعاة الاصلاح في الابلاغ و التأثير، أن الناس رغم تأثرهم جميعا بفعل الحياة الجديدة، لا يزالون يذكرون شكل الحياة في عهد الرسول (ص) و عهد صاحبيه رضي الله عنهما. و قد



كان لهذه الذكري أثرها، لأخذهم تلك الحياة بنظر جد ممتاز، و يدل لهذا أن المنتقدين كانوا اذا أرادوا البلاغ في النكاية رجعوا بالناس الي تلك الذكري، و هذا شاهد نجده في زمن عبدالله بن الزبير، عند شاعر أهاب به حتي يضع حدا لترف أخيه مصعب. قال:



بلغ أميرالمؤمنين رسالة

من ناصح لك لا يريد خداعا



بضع الفتاة بألف ألف كامل

و تبيت سادات الجنود جياعا



لو لابي حفص أقول مقالتي

و أبث ما سأبثكم لارتاعا



(6)لين عثمان (ض) و لا أقول ضعفه، في مواجهة الطغيان الجديد حتي انجرف به. فلم تكن له فيه صفة الزعيم الذي يداوره و يخفف من حدته و امتداده بل وقف عنه حتي طغي عليه، فكان انتقاد المصلحين لهذا الوضع بمثابة الانتقاد له لانخراطه الشديد فيما عليه الناس.

(7)أخذ حكومة الخلفاء بظاهر عمل الرسول (ص) في توزيع الاموال، و وضع بيت المال رهينة الصرف الذي كان من آثاره تكدس الاموال عند الافراد و تعويدهم الفراغ. فقد كانوا لا يستثمرون ما في أيديهم، بل يتكلون علي أنصبتهم في بيت المال.

فكان انصراف [6] الحكومة عن أن تستخدم هذه الاموال الكبيرة في مشاريع عمرانية و اصلاحية و انشائية، و تكدس الأموال عند الاشخاص، و الفراغ، مدعاة للفساد في النش ء ذوي الغضارة و اللدانة. و قديما قال ابوالعتاهية:



ان الشباب و الفراغ و الجده

مفسدة للمري ء أي مفسده




و هذا بلا ريب أدي الي غمرة من الفضول [7] و التدخل في كل شي ء، و استنبات الارستقراطية، وامعان الأفراد بالتطلع و الطموح، و هو فساد مدني كبير، لا يبقي علي حكومة مهما كانت أسسها و مهما كانت درجة استقرارها.

و هناك فساد آخر، نشأ من عدم [8] وجود نظام عسكري بالمعني الصحيح، الا ما تحدر اليهم من نظم العربية القديمة. و العيب أن لا نجد تطورا في الجيش رغم الفتوح الكبيرة، و الاحتكاك بأمم عسكرية شتي، الا ما كان من نظام التعبئة فقد تطور كثيرا. و قد كان واجبا أن يستفيدوا من تجربات هذه الامم العريقة و نظمهم السائدة، و قد يبالغ بالمرء العجب أن يجد نفس النظام [9] العربي القديم سائدا في فتوح افريقية و ما وراءها.


و فائدة النظام العسكري أنه يعلم الائتمار، و يحسر النظر عن التطلع الا في حدود المهنة، و يبعد بنفس العسكري عن المناقشة للشؤون العامة، و يروضه علي التمسك بالحاكم المدني القائم. و من فضائل هذا النظام الواضحة، جبن الرجل العسكري مهما سما قدره عن وضع نفسه في مركز مدني صرف، و تحمل المسؤوليات و الاعباء العامة.

فعدم وجود نظام اذا من هذا النوع، في محيط العرب، جعل الرجالات العسكريين الذين اشتهروا بالبطولة، من مثل طلحة و الزبير، يفكرون بالدعوة لأنفسهم، و الانتفاض لاحتواش السلطة.

(8)عدم عناية حكومة الخلفاء ببث الدعوة و غرس التربية الدينية التي كانت لازمة لذلك المجتمع لزوم التربية الوطنية في نظام القوميات الجديد علي يد دعاة استوت عندهم العقيدة، و اختمرت بها نفوسهم و آتت أكلا هنيا، حتي يتوافر في نفوس المسلمين عامة املاء الدين فيكونون كما قال علي (ع) (عظم الخالق في أنفسم، فصغر ما دونه في أعينهم).

و كذلك فعل النبي (ص) ببعث المرشدين و المعلمين و المبشرين في أنحاء الجزيرة، فلم يكن عليه الصلاة و السلام يقبل الاسلام من الأفراد علي أنه أعمال و طقوس، بل علي أنه عقيدة و مبدأ. و هذا لا يتم الا بأعمال تبشيرية واسعة، و ليس بين أيدينا ما يثبت أن حكومة الخلفاء عنيت بهذه الناحية التشيرية عناية مقصودة.

(9)الاحتكام بالتقليد البدوي؛ فان مسحة الحكم الي عصر علي، لم تزل خاضعة للنظم القبلية. فلم يكن ثم نظام دولي صحيح يجتمع الناس عليه و يستشعرونه، بل ظلوا علي تقليدهم البدوي الذي لا يشعر الا بالانتماء الي القبيلة، و لا يحس الا بسيطرتها و هذا ما يستطير معه الخلاف، و يستشري به النزاع.

و ان حكومة تقوم علي نظم البداوة لا يرجي لها بقاء، لأنه ليس بين عناصرها وحدة حقيقية أو غراء خصيب، و مثلها قريب في جملة عيدان يجمعها اطار فاذا تحلل قليلا أو وهن سقطت متفرقة متوزعة لعدم وجود تماسك حقيقي بينها.


لهذا أوجب النظاميون اليوم بث روح التربية الوطنية بين الأفراد و الطبقات، حتي يكون بينهم وساطة اشتراك في غير الحكومة أو فوق الحكومة. و سنري فيما بعد سر النظام في جند الشام و الاختلاف في جند العراق الذي لم ينتبه الي تعليله أكثر المؤرخين حين عزوه الي طبيعة كلا الشعبين.


پاورقي

[1] هذا الظن رآه کثير من المستشرقين و جري عليه الدکتور أحمد فريد الرفاعي في تمهيدات موضوعه (عصر المأمون) راجع ج 1 ص 4.

[2] لسنا نعني أن الاسلام فصل بين الامور الدينية و الزمنية من حيث التنفيذ و لکن من حيث الموضوع بيد أن الدين يعطي أحکاما في الامور الزمنية کاحوال التعاقد و ما اليه، و معناه أن ليس في الاسلام أمور زمنية بعيدة عن المعني الديني، و ليتنبه الي ان هذه مسئلة أخري غير مسئلة الدين و أصول الحکم....

[3] راجع مروج الذهب المسعودي ج 2، ص 196 ، 194 و لا بأس من ايراد نتف من الخلاف؛ لما بويع أبوبکر يوم السقيفة وجددت البيعة له يوم الثلاثاء علي العامة خرج علي فقال افسدت علينا امورنا و لم تستشر و لم ترع لنا حقا، فقال ابوبکر بلي و لکن خشيت الفتنة و کان المهاجرين و الانصار خطب طويلة و خرج سعد بن عبادة و لم يبايع فصار الي الشام و قال المنذر بن الحباب أما و الله ان شئتم لنعيدنها جذعة، و تخلي الاوس عن معاضدة سعد خوفا ان يفوز بها الخزرج و لم يبايع احد من بني‏هاشم حتي ماتت فاطمة (ض).

[4] راجع مروج الذهب ج 2 ص 193.

[5] ذکر المسعودي في المروج ج 2، ص 222 ان الصحابة في ايام عثمان (ض) اقتنوا الدور و الضياع، منهم الزبير بن العوام بني داره بالبصرة و ابتني دورا بمصر و الکوفة و الاسکندرية، و بلغ ماله خمسين الف دينار و خلف الف فرس و الف امة و خططا. و طلحة بن عبيدالله (ض) ابتني داره بالکوفة و کانت غلته من العراق کل يوم الف دينار وشيد داره بالمدينة و بناها بالآجر و الحص و الساج. و زيد بن ثابت حين مات خلف من الذهب و الفضة ما کان يکسر بالفؤوس غير ما خلف من الاموال و الضياع بقيمة مائة الف دينار. و عبدالرحمن بن عوف ابتني داره و وسعها و کان علي مربطه مائة فرس و له الف بعير و عشرة الاف من الغنم و بلغ بعد وفاته ربع ثمن ماله اربعة و ثمانين الفا. و مات يعلي بن امية و خلف الف دينار و ديونا علي الناس و عقارات و غير ذلک من الترکة ما قيمته مائة الف دينار. قال المسعودي: و لم يکن ذلک في عصر عمر (ض) بل کانت جادة واضحة و طريقة بينة. و حج عمر فأنفق في ذهابه و مجيئه الي المدينة ستة عشر دينارا و قال لولده عبدالله لقد اسرفنا في نفقتنا في سفرنا هذا، الي ان قال فأين عمر ممن ذکرنا و اين هو ممن وصفنا.

[6] و شاهد هذا في جواب عمر (ض) الذي قال له (يا اميرالمؤمنين لو ترکت في بيوت الاموال شيئا يکون عدة لحادث اذا حدث) فزجره عمر و قال له (تلک کلمة القاها الشيطان علي فيک و قاني الله شرها و هي فتنة لمن بعدي اني لا اعد للحادث الذي يحدث سوي طاعة الله و رسوله و هي عدتنا التي ما بلغنا بها) يظهر سيدنا عمر في مقالته هذه تخوفه من طغيان الحاکم بما يجد بين يديه من الاموال و يعتمد علي العقيدة وحدها في المغالبة و الظفر. و هي نظرية عميقة بيد انه بهذا يکون احتاط لطغيان الحاکم و لم يحتط لطغيان الشعب اذا تزايدت الثروة بين يديه.

[7] يشهد لهذا ما جاء في مروج الذهب (و قد صار الناس حلقا في المسجد ليس لهم غير الاحاديث و الخوض).

[8] المعني في هذا نفي وجود نظام عسکري عام يؤخذ به کل فرد و ينشأ عليه کما هو الشأن في التربية العسکرية القوية الصارمة. و الا فقد کان بين هؤلاء الجنود البواسل شخصيات تنزل بين افضل رجال العسکرية في کل التاريخ من حيث فهم الواجب العسکري و التعلق بالرئيس و الاطاعة التامة. و ان من اعظمهم القائد سليط بن قيس هذا الرجل الفذ في تاريخ العسکرية الاسلامية و قد کان تحت امرة ابي‏عبيد (ض) في حملته علي فارس و کان من رأي ابي‏عبيد ان يقطع الجسر علي الفرات حتي لا يفکر المسلمون بالفرار و الهزيمة فقال له سليط ان العرب لم تلق مثل جمع فارس قط و لا کان لهم بقتالهم فاجعل لهم ملجأ و مرجعا من هزيمة ان کانت فقال و الله لا فعلت جبنت يا سليط فقال سليط و الله ما جبنت و لکن اشرت بالرأي و لولا اني أکره خلاف الطاعة لا نحزت بالناس و لکني أسمع و أطيع و ان کنت قد أخطأت و اشرکني عمر معک، فقال أبوعبيد تقدم ايها الرجل فقال سليط افعل فتقدما فقتلا جميعا عليهما الرحمة. هذا موقف لا نظير له أبدا في الاطاعة و الموافقة و لومع الخطأ البين و هو مثال رائع من مثل معرفة الواجب العسکري و الجندية العالية.

[9] المراجع التي تفيد المؤرخ في هذه الناحية نزرة جدا و لکن من مجموعات النتف التي بين ايدينا لا يمکننا الا ان نعطي هذا الرأي فقد کانت القبلية تعمل عملها في نظام الجيش و نظام الاغارة و الهجوم و لذک کان الزعيم القبلي الخطير يستطيع الانصراف بالناس و الخلاف علي القائد العام، و هذا ما وقع لعلي (ع) من الاشعث بن قيس في موقعة صفين. و هذا الرأي واضح لکل من يدرس النصوص الواصلة حتي ان القائد العراقي طه باشا الهاشمي في کتابه الحرکات العسکرية في فتوح خالد بن الوليد لم يتسن له الا ان يثبت الثابت رغم ميله الشديد الي اظهار ذللث النظام بنوع تفوق، و لذلک عرض نظام الحرکات في الجاهلية بشي‏ء من الاعجاب.