بازگشت

مقدمة الطبعة الثانية


لم يكن عندي شك في أن هذه الآراء التي علقت بها علي حكومة الخلفاء، ستلاقي استنكارا من قوم و معتبة من قوم آخرين بيداني كنت مع ذلك مطمئنا الي أنها سوف لا تعدم طائفة تركن اليها و تسيغها و ترتاح الي ما فيها من الشرح و التفسير.

و كان الذي حرضي علي أن أخرج للناس ما انتهيت اليه رغم شعوري بأنه لون ناب في دراسة التاريخ عند فئة أو فئات أن المرحلة الاولي من مراحل التاريخ الاسلامي يجثم عليها الغموض من أقطارها فتثير لدينا فضولا أو تساؤلا في معني الفضول، و ان من حق هذه المرحلة أن تحقق كثيرا و تدرس كثيرا، لأن نسبتها من التاريخ الاسلامي العام كالنواة؛ و بذلك لا نطمع أبدا أن نفهم روح الاتجاهات المختلفة التي دفعت المجتمع الاسلامي و سيرته و هو كتلة ضخمة في عصور و أجيال، الا اذا توفرنا جيدا علي درس هذه المرحلة، و حللنا حوادثها و شخصنا عوامل الاضطراب فيها.

و لقد حقت كلمة فكرة الامام عبد الكريم الشهرستاني التي ضمنها كتاب (الملل و النحل): من أن كل التبلبلات التي مرت بالتاريخ الاسلامي سواء في العقيدة أو السياسة، يمكننا أن نجد لها مرتجعا و مردا في حوادث صدر التاريخ.

و هذه فكرة لا ريب في أنها نيرة للغاية و موفقة للغاية، و من ثم يظهر مقدار


قصور الدراسة التي بين أيدينا، لأنها لم تحقق هذه الصلة المذكورة، فهي تقوم علي أساس غير صالح و تجعل سببا ما ليس بسبب صحيح.

فيجب علينا اذن، أن نعني كثيرا و نبحث كثيرا في صدد تاريخ الخلفاء، و ان ندرس كل الاحتمالات التي تقوم علي وجه قريب حتي يتسق لنا ادراك الاوضاع المناسبة لفرض تسلسل التاريخ الاسلامي العام. و هذا ما نهدنا اليه في كتابنا عن الحسين، و الذي اوردنا منه في الحلقة الاولي بعض نظريات مرسلة لم نعن بتحليلها الا علي وجه سريع: (و كيفما كان فنحن لم نقصد الا بسط رأي جديد بين يدي موضوع لم يتوضح بعد، و ما أحري أن تثار من حوله طائفة من الابحاث ان لم تكشف عنه فلا أقل من أن تميط من غموضه، كما جاء في كتابنا «مقدمة لدرس لغة العرب».

وها هنا بحث مهم يجب أن ننبه عليه، و هو أن التاريخ ليس [1] علما فيجب أن يصطنع فيه الاسلوب اليقيني الذي نعهده في بحث الطبيعة و الكيمياء، و ما اليهما مما يجي ء عادة في جريدة العلوم التي وضعها (اوغست كنت)، و انما ينظم في نسق الآداب التي هي نتاج القوة النظرية و البحث الاستنتاجي، لما يدخله من صور الجماعات، و الانفعالات و المؤثرات النفسية و الاقتصادية. نعم يقوم اليوم نفر من المؤرخين لجره الي الحقل العلمي، غير انهم مع ذلك يتمهلون ريثما تثبت مسائل العلوم التي هي كالمقدمات بالنسبة له كالاجتماع و النفس و علوم الحياة. فما لم يكشف عن السنن والقواعد التي تحقق علاقة الفرد بالمجموع الذي يتبعه و علاقة ذلك المجموع بالكل الاجتماعي، و يفصحوا عن حقائق التطور الاجتماعي و ضوابطه، و الانفعالات و بواعثها، و المشاعر و تشعب مناحيها، فلن يصبح التاريخ علما. و علي هذا يقول (جوته): ان التاريخ يجب أن يعاد تدوينه و النظر فيه من حين الي آخر، لا لأن حقائق كثيرة تكون قد عرفت علي مر الايام، بل لان أوجها من النظر قد تظهر في أفق البحث العقلي، و لأن المعاصرين الذين هم ذوو


ضلع كبير في تقدم عصورهم و ارتقائها يساقون دائما الي غايات ينتهون بها الي حيث تصبح ذات صبغة يقتدر بها علي تدبر الماضي و الحكم عليه بصورة لم تكن معروفة من قبل)

و مثل التاريخ من الوجهة التحليلية، مثل التحقيق القضائي في دعوي غامضة مر عليها الزمن و دخلت في حيز الماضي، فلن تكون نتائجه الا استنتاجية خالصة.

و أنا و ان كنت اميل الي الاخذ بالتاريخ مأخذ الوضع العلمي، فلم أزل أعتقد بأن التاريخ رغم ما سيبذل فيه من الجهود لن تكون له الصفة العلمية الا في الاسلوب و طرائق البحث، و أما من حيث الموضوع فسيظل فرعا من الآداب. و بهذه المناسبة أذكر بأن بعض [2] الكبار من علماء التاريخ في العصر الحديث قدم بحثا ضافيا الي المؤتمر التاريخي الذي انعقد في بروكسل، يدور علي الشك في وجود سقراط الحكيم اليوناني الذي اكتسب من كثرة ما ندرسه وجودا محققا كأنه يشاركنا الحياة أو يعاطينا أسباب الوجود.

و لست اريد أن أبلغ بما ذكرت الي استباحة هذه النزعة الخطرة في عرض التاريخ و اعتبارها في تشخيص الحوادث و الاسباب، و انما أريد أن أبين مدي انفصال و بعد التاريخ عن السنة العلمية و الطريقة الوضعية. و علي أي الاعتبارات في مجال هذا البحث الذي يأخذ العلماء به في تصنيف التاريخ فانه يحتفظ بحقيقة جوهرية، و هي أنه ليس في مكنة أحد أن يقطع بأن التاريخ علم.

و لقد شاء بعض الباحثين أن يأخذ علي هذا الكتاب بعضا من نتائجه، و كنت أود أن يدقق الموضوع قبل أن يرسل دراسة عليه، و ان كان في تدقيق الموضوع ما يوصله الي مجانبة كل ما هو معروف و كل ما هو محجب، فان النزعة العلمية تفرض علينا أن نفتش عن الحقيقة وحدها دون التعلق بالملابسات. و أهم الموضوعات التي أثبت فيها مناقشته هي:


(1)استنكار النتيجة التي قررناها من أنه لا وجود للسلطة القضائية بالمعني الحديث في حكم بني أمية. رغم أن كل صفحة من تاريخ الامويين تنطق بالسياسة الدموية النفية من السلطان القضائي. و قد أوضحت في فصل انقلاب من الحلقة الثانية، السياسة النموذجية في دوري العهد الاموي. و هي سياسة زياد في العهد الاول، و سياسة الحجاج في العهد الثاني.

(2)معارضة النتيجة المتفق عليها بين دراسي التاريخ من أن معاوية اقتبس النظام البيزنطي و تلون به. و أنا لا أعلم اثنين اختلفا في صحة هذه النتيجة حتي معاوية نفسه اعتذر عن بيزنطية مظاهره الي سيدنا عمر (ض) حينما ورد الشام بأن جواره لهم يقضي عليه بمجاراتهم.

و نحن اذا علمنا أن العرب دخلوا الشام صلحا و ورثوا شعب البيزنطيين و نظمهم في الادارة و طرائق حكمهم، لم يعد تأثر الامويين بنوع هذا النظام مما يحتاج الي البرهان. و عن هذا الطريق علل بعض مؤرخي الشرائع من المستشرقين تأثر الفقه الاسلامي بالفقه الروماني.

(3)مناقشة رأيي في أن هناك علاقة بين الاختلاف علي البيعة يوم السقيفة و بين حركة المرتدين؛ بأن مثل هذا الاختلاف يقع في أي بلد من البلدان الجمهورية اليوم و لا يؤدي الي خروج أو تمرد. و لكنه غفل عن وجه الفارق بين النظيرين؛ فان أحدهما يقع في محيط قبلي ليست بين أطرافه أربطة اجتماعية متينة، و الآخر يقع ي جو حضاري يفقه جيدا الفكرة الشعبية و يحافظ عليها و ينزل بكل اختلاف دونها فلا تتأثر به.

(4)استنكار توجيه الاتهام الي الامويين بأنهم أصحاب اليد في الانقلاب. و هنا أرسل تعميمات صحيحة قبل أن أقول كلمتي: و هي أن حكومة الخلفاء كانت اسلامية عامة أي انسانية صهرت فوارق الجنس، و من هذا يظهر أنها طلبت أن تضم الشعوب و تنتظم بني الانسان في نسق قبل أن تمر بالدور


القومي و القاري [3] ، فكانت حكومتهم طفرة من الدور القبلي الي الدور الشعوبي الانساني الذي هو أسمي ما تبلغه المسحة الحكومة. لذلك كان طبيعيا أن تصاب بنوع من الحذر و أن تدخل في التفاف يعود بها الي النشوء الطبيعي، فقامت الدولة الاموية لتعبر عن القومية العربية. و قد أظهرت نوعا من الكفاءة العربية في في الدولة، و كان كل ما يؤخذ عليها في قاعدة سياستها الداخلية - عدا ما ذكرنا من انتفاء السلطة القضائية - المبالغة في التعصب للقومية في حدود دين يتنادي ليجمع البشرية في حدوده.

من هنا نقع علي انهم سعوا وفق برنامج خاص الي الانقلاب الاجتماعي و السياسي في أسلوب الحكم و قاعدة الدولة.

(5)معارضة رأيي في الامويين و انهم الذين اغتالوا عمر (ض) أو سببوا اليه.

و قد بسطت الكلام عليه في الحلقة الثانية.

بقيت انتقادات تدخل في حد المآخذ اللغوية منها:

(1)استبدال تعبير (ثم ان هذه الجوانب) بتعبير (ثم هذه الجوانب). رغم انه خارج مخرج قوله تعالي (ثم الذين كفروا بربهم يعدلون)

(2)كلمة (انتشر) خطأ لغوي في المعني المسوقة عليه. و أنا أراها من أطرف التعابير و أصحها، و ذلك لأن اللازم اذا عدي بحرف من الادوات يكتسب معناه أيضا. و يفيد معني جديدا بطريق التضمين. و يحسن بدراسي العربية أن يعودو الي كتابنا (مقدمة لدرس لغة العرب) ففيه بحث نادر عن أسرار التعدية و للزوم و أصولهما.


(3)كلمة (بعثرة) التي ورد فعلها في القرآن بنفس المعني؛ فلا جناح أبدا عند اللغويين اذا ضمن المشتق معني المشتق منه.

لذلك لم أجدني في حاجة الي تغيير شي ء عن موضعه و منزلته، و أنا أخرجه اليوم كما أخرجته من قبل واثقا بنتائجه مطمئنا اليها حتي يظهر خلافها. ثم لا أقول هنا الا ما قلت هناك في تصدير الحلقة الثانية:

(لا تمنعني غرابة رأي أظن انه صحيح أو اعتقد صحته من ابدائه، لأن الشهرة لم تعد أبدا عنوان الحقيقة. و أيضا لا يحول بيني و بين رأي انه قليل الانصار، لأن الحق لم يعد ينال بالتصويت، فان الانتخاب من عمل الطبيعة و هي لا تغالط نفسها كما لا تعمد الي التزوير.)

15 شعبان سنة 1359 العلايلي



پاورقي

[1] راجع هذا البحث بتفصيل في کتاب معضلات المدنية الحديثة للاستاذ مظهر ص 82 الي 133.

[2] راجع کتاب من بعيد الدکتور طه حسين ففيه حکاية ما دار في هذا المؤتمر اذ کان مندوبا عن مصر.

[3] لي رأي خاص في التکتل الاجتماعي و تسلسله اذکر طرفا منه هنا و هو:

أن الانسان بعد التجانس الفطري، يدخل في دور تنافر اجتماعي يکون اولا قبليا فاقطاعيا فقوميا فقاريا - نسبة الي القارة من مثل ادعاء اليابان بالجامعة الاسيوية - فانسانيا حينما تتهذب الغرائز وتر تقي الادبيات العامة.