بازگشت

للأمام الطبري


هو أبوجعفر محمد بن جرير الطبري، كان مولده في سنة أربع و عشرين و مائتين، و كان أسمر أعين مليحا وجهه مديدة قامته، ذرب اللسان فصيح البيان، جمع الكثير و حصل الجم الغفير، و رحل الي آفاق بعيدة في طلب الحديث، و له تفسير كامل فريد لا نظير له.

و قد روي أن الطبري رحمه الله مكث أربعين سنة يكتب كل يوم أربعين ورقة. قال الخطيب البغدادي: استوطن ابن جرير بغداد و أقام بها الي حين وفاته و كان من أكابر العلماء و الأئمة، ثم يقول: - و كان قد جمع من العلوم ما لم يشاركه فيه أحد من أهل عصره، و كان حافظا لكتاب الله عارفا بالقراءات كلها، بصيرا بالمعاني، فقيها في الأحكام، عالما بالسنن و طرقها، و صحيحها و سقيمها، و ناسخها و منسوخها، عارفا بأقوال الصحابة و التابعين و من بعدهم.

و للامام الطبري كتابه القيم التاريخ الطبري الذي سرد فيه تاريخ الأمم و الملوك و كتابه في التفسير لم يصنف أحد مثله و قد أجمع العلماء أنه لم يسبقه أحد فيه، لقوة مادته و شموخ بنائه.

و له كتاب اسمه: تهذيب الآثار يقول فيه ابن كثير: لم أر سواه في


معناه [1] الا أنه لم يتمه. كما أن لابن جرير كثير من المصنفات في أصول الفقه و تفرد بآراء و مسائل أثرت عنه و حفظت له، و أبوبكر الخوارزمي الشاعر المشهور ابن أخته [2] .

و قد روي الخطيب عن امام الأئمة أبي بكر بن خزيمة أنه طالع تفسير محمد بن جرير الطبري في ستين من أوله الي آخره ثم قال «ما أعلم علي أديم الأرض أعلم من ابن جرير» [3] ا. ه.

و قد شهد كثير من الناس له بالزهد و الورع و التقوي و العبادة، و القوة في الحق لا تأخذه فيه لومة لائم، و شهد له بأنه من كبار الأئمة الصالحين العارفين، و قد طلب من الخليفة المقتدر أن يأمر الشرطة أن يمنعوا السؤال يوم الجمعة فلا يدخلوا الي مقصورة الجامع فنفذ الخليفة له ما طلب و أمر بذلك من فوره.

و كان الامام أبوجعفر محمد بن جرير الطبري ينفق علي نفسه و بيته من فعل قرية بطبرستان تركها أبوه له.

و قد جاوز الامام الثمانين من عمره بخمس سنين أو ست سنين حسب بعض الأقوال، و كان كثير سواد شعر الرأس و اللحية، و قد توفي وقت المغرب عشية يوم الأحد ليومين بقيا من شوال من سنة عشر و ثلثمائة [4] و قيل توفي يوم السبت آخر النهار في السادس و العشرين من شوال. [5] .


و دفن الطبري في بيته، نزولا علي اكراه الجهلة و الرعاع من الحنابله، الذين افتروا عليه و نسبوه الي الرفض زورا و بهتانا و احتدوا عليه حيا و لم يصفحوا عنه ميتا، اذ منعوا و رفضوا دفنه نهارا في مقابرهم، و قد بلغ بالجهلة الأمر الي أن رموه بالالحاد، و حاشاه من ذلك كله و هو الامام العالم العامل بعلمه يتيم عصره و فريد أترابه، و الذي قال فيه قاضي القضاة ابن خلكان (تاريخه أصح التواريخ و أثبتها). ه.

و لعل ثمة سرا وراء هذا التهويل و تلك الحملة الهوجاء الرعناء التي شنها علي الطبري خصومه، فان الدافع الي ذلك و الذي أوقد نار هذه الفتنة و أسعر حزامها هو أبوبكر محمد بن داود الفقيه الظاهري حيث تكلم في الرجل و رماه بالعظائم و الرقص.

و لعن الله الحرص و الحقد، و قاتل الله السخيمة و قبح الله من أيقظ الفتنة، فان لها كثيرا من الضحايا الأبرياء الشرفاء في كل عصر و مصر و لم تمنع هذه الافتراءات تقدير الناس و الخلصاء و الصالحين لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري فقد ورد أنه لما توفي هرع الناس من سائر أقطار بغداد وصلوا عليه بداره أرسالا ثم دفنوه بها.

و ليس هذا فحسب انما يروي لنا ابن كثير في تاريخه المشهور أن الناس كانوا بل ظلوا يترددون علي قبره شهورا يصلون عليه بكرامته و علمه و فقهه الذي طبق الآفاق.

و فيه يقول القاضي ابن العربي صاحب أحكام القرآن و مصنف كتاب (العواصم من القواصم) أه. ص 248: -

«انما ذكرت لكم هذا لتحترزوا من الخلق - المنافقين و الملحدة و الجهلة - و خاصة من المفسرين و المؤرخين، و أهل الآداب، بأنهم أهل جهالة بحرمات الدين، أو علي بدعة مصرين، فلا تبالوا بما رووا، و لا تقبلوا رواية الا عن أئمة الحديث، و لا تسمعوا لمؤرخ كلاما الا للطبري، و غير ذلك هو الموت الأحمر، و الداء الأكبر».


و هذه شهادة من القاضي ابن العربي لها قيمتها، و هل يقدر الرجال و يقيم شخصياتهم، و هل يعرف فضائل الرجال و أقدارهم الا الرجال و لا يعرف الفضل لأولي الفضل الا ذوو الفضل.

رحم الله الامام أباجعفر محمد بن جرير الطبري، و جزاه عنا و عن الاسلام خيرا و الحقنا به في دار كرامته و جمعنا و اياه و الصالحين في سوق الجنة.

القاهرة في شوال سنة 1404 ه يوليو سنة 1984 م.

السيد الجميلي



پاورقي

[1] البداية و النهاية لابن‏کثير (145: 11) ط. دار الفکر العربي.

[2] و فيات الأعيان لابن خلکان (332: 3) ط. السعادة.

[3] البداية و النهاية (146: 11).

[4] المرجع السابق نفس الصفحة، و مروج الذهب للمسعودي (308: 4) بتحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد. ط. دار المعرفة بتصرف.

[5] و فيات الأعيان لأبن خلکان (332: 3) ط. السعادة بتحقيق محمد محيي الدين عبدالحميد.

و أرجو مراجعة ترجمة الامام محمد بن جرير الطبري في ارشاد الأريب (423: 6) و تذکرة الحفاظ للذهبي (351: 2) و الوفيات لابن‏خلکان (456: 1) و طبقات السبکي (140 - 135: 2) و مفتاح السعادة (205: 1) و ما بعدها و تاريخ حکماء الاسلام (29) و ميزان الاعتدال (35: 3) و لسان الميزان (100: 5) و کشف الظنون (437) و تاريخ بغداد (162: 2).