بازگشت

خمسة و وحشية


و كان حقا لا مجازا ما توخيناه حين قلنا انها طرفان متناقضان و أنها حرب بين أشرف ما في الانسان.

فبينما كان الرجل في عسكر الحسين ينهض من بين الموتي و لا يضن بالرمق الاخير في سبيل ايمانه، اذا بالآخرين يقترفون أسوأ المآ ثم في رأيهم - قبل رأي غيرهم - من أجل غنيمة هينة لا تسمن و لا تغني من جوع. فلو كان كل ما في عسكر الحسين ذهبا و درا لما أغني عنهم شيئا و هو قرابة أربعة آلاف... و لكنهم، ما استيقنوا بالعاقبة - قبل أن يسلم الحسين نفسه الأخير - حتي كان همهم الي الاسلاب التي يطلبونها حيث وجدوها، فأهرعوا الي النساء من بيت رسول الله ينازعونهن الحلي و الثياب التي علي أجسادهن، لا يزعهم عن حرمات رسول الله وازع من دين أو مروءة. و انقلبوا الي جئة الحسين يتخطفون ما عليها من كساء تخللته الطعون حتي أو شكوا أن يتركوها علي الأرض عارية، لولا سراويل لبسها رحمه الله ممزقة و تعمد تمزيقها ليتركوها علي جسده و لا يسلبوها. ثم نبدوا عشرة من الفرسان يوطئون جثته الخيل كما أمرهم ابن زياد، فوطئوها مقبلين و مدبرين حتي رضوا صدره و ظهره.

و قد يساق الغنم هنا معذرة للأثم بالغا ما بلغ هذا من العظم، و بالغا ما بلغ ذلك من التفاهة. لكنهم في الحقيقة قد ولعوا بالشر للشر من غير ما طمع في مغنم كبيرا أو صغير. فحرموا الري علي الطفل الظامي ء


العليل و أرسلوا الي أحشائه السهام بديلا من الماء، و قتلوا من لا غرض في قتله و روعوا من لا مكرمة في ترويعه... فربما خرج الطفل من الأخبية ناظرا و جلا لا يفقه ما يجري حوله، فينقض الفارس الرامح فوق فرسه و يطعنه الطعنة القاضية بمرأي من الأم و الأخت و العمة و القريبة، و لم تكن في الذي حدث من هذا القبيل مبالغة يزعمونها كما زعم أجراء الذمم بعد ذلك عن حوادث كربلاء و جرائر كربلاء. فقد قتل فعلا في كربلاء كل كبير و صغير من سلالة علي رضي الله عنه، و لم ينج من ذكورهم غير الصبي علي زين العابدين.. و في ذلك يقول سراقة الباهلي:



عين جودي بعبرة و عويل

و اندي ما ندبت آل الرسول



سبعة منهم لصلب علي

قد أبيدوا و سبعة لعقيل



و ما نجا علي زين العابدين الا بأعجوبة من أعجايب المقادير، لأنه كان مريضا علي حجور النساء يتوقعون له الموت هامة اليوم أو غد، فلما هم شمر بن ذي الجوشن بقتله، نهاه عمر بن سعد عنه اما حياء من قرابة الرحم أمام النساء - و قد كان له نسب يجتمع به في عبدمناف - و أما توقعا لموته من السقم المضني الذي مان يعانيه.. فنجا بهذه الأعجوبة في لحظة عابرة، و حفظ به نسل الحسين من بعده، و لو لا ذلك لباد.


ثم قطعوا الروؤس و رفعوها أمامهم علي الحرب، و تركوا الجثث ملقاة علي الأرض لا يدفنونها و لا يصلون عليها كما صلوا علي جثث قتلاهم... و مروا بالنساء حواسر من طريقها فولولن باكيات و صاحت زينب رضي الله عنها:

- يا محمداه!.. هذا الحسين بالعراء و بناتك سبايا و ذريتك مقتلة تقسي عليها الصبا..

فوجم القوم مبهوتين و غلبت دموعهم قلوبهم. فبكي العدو كما بكي الصديق!..

لم تنقض في ذلك اليوم خمسون سنة علي انتقال النبي محمد عليه السلام من هذه الدنيا الي حظيرة الخلود: محمد الذي بر بدينهم و دنياهم فلم ينقل من الدنيا حتي نقلهم من الظلمة الي النور، و من حياة التيه في الصحراء الي حياة عامرة يسودون بها أمم العالمين ثم هذه خمسون سنة لم تنقض بعد، و اذا هم في موكب جهير يجوب الصحراء الي مدينة بعد مدينة: سباياه بنات محمد حواسر علي المطايا و أعلامه رؤوس أبنائه علي الحراب، و هم داخلون به دخول الظافرين!

و بقيت الجثث حيث نبذوها بالعراء «تسفي عليها الصبا»

فخرج لها مع الليل جماعة من بني أسد كانوا ينزلون بتلك الأنحاء...


فلما أمنوا العيون بعد يوم أو يومين سروا مع القمراء الي حيث طلعت بهم علي منظر لا يطلع القمر علي مثله - شرفا و لا وحشة - في الآباد بعد الآباد...

و كان يوم المقتل في العاشر من المحرم... فكان القمر في تلك الليلة علي و شك التمام.. فحفروا القبور علي ضوئه، وصلوا علي الجثث و دفنوها، ثم غادروها هناك في ذمة التاريخ. في اليوم مزار يطيف به المسلمون متفقين و مختلفين، و من حقه أن يطيف به كل انسان، لأنه عنوان قائم لأقدس ما يشرف به هذا الحي الآدمي بين سائر الأحياء.

فما أظلت قبة السماء مكانا لشهيد قط هو أشرف من تلك القباب بما حوته من معني الشهادة و ذكري الشهداء..