بازگشت

شجاعة جند الحسين


كان هناك عسكران احدهما صغير يلح عليه العطش و الضيق، و لكنه كان مطمئنا الي حقه يلقي الموت في سبيله و يزيده العطش و الضيق طمأنينة الي هذا المصير...

و العسكر الآخر أكبر العسكرين و لكنه كان «يخون» نفسه في ضمير كل فرد أفراده، و تملكه الحيرة بين ندم و خوف و تبكيت و مغالطة و اضطراب، يحز في الأعصاب و يقذف المرء الي الخلاص كيفما كان الخلاص...

و طال القلق علي دخيلة عمر بن سعد فأطلقه سهما في الفضاء كأنه كان متشبثا بصدره فاستراح منه بانطلاقه...

فزحف الي مقربة من معسكر الحسين، و تناول سهما فرماه عن قوسه الي المعسكر و هو يصيح:

- أشهدوا لي عند الامير انني أول من رمي الحسين...

ثم تتابعت السهام فبطلت حجة السلم و ذهب كل تأويل في نية القوم،


و قال الحسين و هو ينظر الي السهام و ينظر الي أصحابه:

- قوموا يا كرام فهذه رسل القوم اليكم.

و بذلك بدأ القتال...

و قد تأهب الحسين لهذه المنازلة المنتظرة، و ان كان علي انتظاره اياها قد تريث حتي يبدأوه بالعدوان من جانبهم، و حتي يجب عليه الدفاع وجوبا لا خلاف فيه...

فاختار له رابية يحتمي بها من ورائه، و وسع و هدتها حتي أصبحت خندقا لا يسهل عبوره... فأوقد فيه النار ليمنع عليهم الالتفاف به من خلفه، و هم في كثرتهم التي ترجع عدة صحبه ستين ضعفا قادرون علي مهاجمته من جميع نواحيه.

و كان معه اثنان و ثلاثون فارسا و أربعون راجلا... و هم نيف و أربعة آلاف يكثر فيهم الفرسان و راكبو الابل و يحملون صنوفا مختلفة من السلاح...

و مع هذا التفاوت البعيد في عدة الفريقين، كان العسكر القليل كفؤا للعسكر الكثير لو جري القتال علي سنة المبارزة التي كانت دعوة مجابة في ذلك العصر، اذا اختارها أحد الفريقين...

فان آل علي جميعا كانوا من أشهر العرب - بل من أشهر العرب و العجم - بالقوة البدنية و الصبر علي الجراح و الاضطلاع بعناء الحرب


ساعات بعد ساعات، و منهم من كان يلوي الحديد فلا يقيمه غيره، و منهم محمد بن الحنفية الذي صرع جبابرة القوة البدنية بين العرب و العجم في زمانه، و من أشهر هؤلاء الجبابرة رجل كان في أرض الروم يفخر به أهلها. فأرسله ملكهم الي معاوية يعجز به العرب عن مصارعته و اتقاء بأسه. فجلس محمد بن الحنيفة و طلب من ذلك الجبار الرومي أن يقيمه، فكان كأنما يحرك جبلا لصلابة أعضائه و شدة أسره. فلما أقر الرجل بعجزه رفعه محمد فوق رأسه ثم جلد به الأرض مرات.

و الحسين رضي الله عنه عنه قد كان هو و من معه من شباب آل علي ممن ورث هذه القوة البدنية كما ورثوا ثبات الجأش و حمية الفؤاد، و كانوا كفؤا لمبارزة الأنداد واحدا بعد واحد حتي يفرغ جيش عبيدالله من فرسانه القادرين علي المبارزة، و لا يبقي منهم غير الهمل يتبددون في منازلة الشجعان، كما تتبدد السائمة المذعورة بالعراء...

و كان مع الحسين نخبة من فرسان العرب كلهم لهم شهرة بالشجاعة و البأس و سداد الرمي بالسهم و مضاء الضرب بالسيف، و لن تكون صحبة الحسين غير ذلك بداهة و تقديرا لا يتوقفان علي الشهرة الذائعة و الوصف المتواتر، لأن مزاملة الحسين في مثل تلك الرحلة هي وحدها آية علي الشجاعة في ملاقاة الموت و كرم النحيزة في ملاقاة الفتنة و الاغراء...

فاذا جري القتال كله مبارزة بين أمثال هؤلاء و من يبرزون لهم من جيش عبيدالله، فهم كف ء للمنازلة و ليس أملهم في الغلب بضعيف.


و قد بدأ القتال بهجوم الخيل من قبر جيش ابن زياد، فأشرع أصحاب الحسين لها رماحهم و جثوا علي الركب ينتظرونها فلم تقم الخيل للرماح و أوشكت أن تجفل مولية بفرسانها...

فعدل الفريقان الي المبارزة، فلم يتعرض لها أحد من جيش ابن زياد الا فشل أو نكص علي عقبيه، فخشي رؤوس الجيش عقبي هذه المبارزة التي لا أمل لهم في الغلبة بها، و صاح عمر بن الحجاج برفاقه:

- أتدرون من تقاتلون؟... تقاتلون فرسان المصر و قوما مستميتين. لا يبرز اليهم منكم أحد فانهم قليل... لو لم ترموهم الا بالحجارة لقتلتموهم...

فاستصوب عمر بن سعد مقاله، و نهي الناس عن المبارزة...

فلما برز عابس بن أبي شبيب الشاكري بعد ذلك و تحداهم للمبارزة، تحاموه لشجاعته و وقفوا بعيدا منه. فقال لهم عمر:

- أرموه بالحجارة...

فرموه من كل جانب... فاستمات و ألقي بدرعه و مغفره و حمل علي من يليه، فهزمهم و ثبت لجموعهم حتي مات.

و عجزت خيل القوم مع كثرتها عن مقاومة خيل الحسين، و هي


تتكشف كل ساعة عن فارس قتيل... فبعث عروة بن قيس مقدم الفرسان في جيش ابن زياد يقول لعمر بن سعد: «لا تري ما تلقي خيلي هذا اليوم من هذه العدة اليسيرة؟... ابعث اليهم الرجال و الرماة»

فبعث اليه بخسمائة من الرماة و علي رأسهم الحسين بن نمير، فرشقوا أصحاب الحسين بالنبل حتي عقروا الخيل و جرحوا الفرسان و الرجال.

و كان أبوالشعثاء يزيد بن زياد الكندي ممن عدل الي جيش الحسين و هو من أشهر رماة زمانه. فلما تكاثر عليهم رمي النبال و السهام، جثا بين يدي الحسين و أرسل مائة سهم لم يكد يخيب منها خمسة أسهم...

و قاتل حتي مات...

و كان الذين عدلوا الي عسكر الحسين أشد أنصاره عزمة في القتال و هجمة علي الموت، و منهم الحر بن يزيد الذي تقدم ذكره. فجاهد ما استطاع ليقنع أصحابه الاولين بالكف عن حرب الحسين أو بالعدول الي صفه... و قام علي فرسه يخطب أهل الكوفة و يزجرهم، فسكتوا هنيهة ثم رشقوه بالنبل فعقروا فرسه و جرحوه... فما زال يطلب الموت و يتحري من صفوفهم أكثفها جمعا و أقتلها نبلا حتي سقط مثخنا بالجراح و هو ينادي الحسين: «السلام عليكم يا أباعبدالله».

و لم يكن من أصحاب الحسين الا من يطلب الموت و يتحري مواقعه و أهدافه... فكان نافع بن هلال البجلي يكتب اسمه علي أفواق نيله و يرسلها فيقتل بها و يجرح، و قلما يخطي ء مرماه. فأحاطوا به و ضربوه


علي ذراعيه حتي كسرتا، ثم أسروه و الدم يسيل من وجهه و يديه، فحسبوه يلين للوعيد و يجزع من التمثيل به، فأسمعهم ما يكرهون و راح يستزيد غيظهم و يقول لهم: «لقد قتلت منكم اثني عشر رجلا سوي من جرحت، و لو بقيت لي عضد و ساعد لزدت».