بازگشت

نموت معك


أقبل الفتي الصغير علي بن الحسين علي أبيه... و قد علم أنهم مخيرون بين الموت و التسليم فسأله:

- ألسنا علي الحق؟...

قال الوالد المنجب النجيب:

- بلي و الذي يرجع اليه العباد...

فقال الفتي:

- يا أبه!... فاذن لا تبالي!...

و هكذا كانوا جميعا لا يبالون ما يلقون، ما علموا أنهم قائمون بالحق و عليه يموتون...


و أراد الحسين - و قد علم أن التسليم لا يكون - أن يبقي للموت وحده و ألا يعرض له أحدا من صحبه. فجمعهم مرة بعد مرة و هو يقول لهم في كل مرة: «لقد بررتم و عاونتم و القوم لا يريدون غيري. و لو قتلوني لم يبتغوا غيري أحدا... فاذا جنكم الليل فتفرقوا في سواده و انجوا بأنفسكم»...

فكأنما كان قد أراد لهم الهلاك و لم يرد النجاة، و فزعوا من رجائهم اياه كما يفزع غير هم من مطالبتهم بالثبات و البقاء. و قالوا له كأنهم يتكلمون بلسان واحد: «معذ الله و الشهر الحرام... ماذا نقول للناس اذا رجعنا اليهم؟ أنقول لهم انا تركنا سيدنا و ابن سيدنا و عمادنا، تركناه غرضا للنبل و دريئة للرماح و جزرا للسباع، و فررنا عنه رغبة في الحياة؟ معاذ الله... بل نحيا بحياتك و نموت معك...».

قالوا له نموت معك و لك رأيك: و لم يخطر لأحد منهم أن يزين له العدول عن رأيه ايثارا لنجاتهم و نجاته. و لو خادعوا أنفسهم قليلا لزينوا له التسليم و سموه نصيحة مخلصين يريدون له الحياة، و لكنهم لم يخادعوا أنفسهم و لم يخادعوه، و رأوا أصدق النصيحة له أن يجنبوه التسليم و لا يجنبوه الموت، و هم جميعا علي ذلك.

و لم يكونوا جميعا من ذوي عمومته و قرباه، بل كان منهم غرباء نصحوا له و لأنفسهم هذه النصيحة التي ترهب العار و لا ترهب الموت.

فقال له زهير بن القين: «و الله لوددت أني قتلت ثم نشرت ثم قتلت حتي


أقتل هكذا ألف مرة، و يدفع الله الفشل عن نفسك و عن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل الفتيان من أهل بيتك».

و قال مسلم بن عوسجة كأنه يعتب لما اختار له من السلامة: «أنحن نخلي عنك؟ و بم نعتذر الي الله في أداء حقك؟ لا و الله حتي أطعن في صدورهم برمحي و أضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدي، و لو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به لقذفتهم بالحجارة. و الله لا نخليك حتي يعلم الله أنا قد حفظنا غيبة رسوله فيك. و أما و الله لو علمت أنني أقتل ثم أحيي ثم أحرق ثم أحيي ثم أحرق ثم أذري و يفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك حتي ألقي حمامي دونك...»

و جي ء الي رجل من أصحابه الغرباء بنبأ عن ابنه في فتنة الديلم، فعلم أن الديلم أسروه و لا يفكون اساره بغير فداء، فأذن له الحسين أن ينصرف و هو في حل من بيعته و يعطيه فداء ابنه. فأبي الرجل اباء شديدا، و قال: «عند الله أحتسبه و نفسي» ثم قال للحسين: «هيهات أن أفارقك ثم أسأل الركبان عن خبرك. لا يكن و الله هذا أبدا»...

و قد تناهت هذه المناقب الي مداها الأعلي في نفس قائدهم الكريم...

يخيل الي الناظر في أعماله بكربلاء أن خلائقه الشريفة كانت في سباق بينها أيها يظفر بفخار اليوم، فلا يدري أكان في شجاعته أشجع، أم في صبره أصبر، أم في كرمه أكرم، أم في ايمانه و أنفته و غيرته علي الحق


بالغا من تلك المناقب المثلي أقصي مداه... الا انه كان يوم الشجاعة لامراء، و كانت الشجاعة فضيلة الفضائل التي تمدها سائرها بروافد من كل خلق نبيل يعينها علي شأنها. فكان الحسين - شبل علي - في شجاعته الروحية و البدنية معا غاية الغايات، و كان مضرب المثل بين الرعيل الأول من أشجع الشجعان في أبناء آدم و حواء...

ملك جأشه... و كل شي ء من حوله يوهن الجأش، و يحل عقدة العزم، و يغري بالدعة و المجاراة...

ملك جأشه و من حوله نساؤه و أبناؤه في نضارة العمر، يجوعون و يظمأون، و يتشبثون به و يبكون، و ملك جأشه روية و أناة و لم يملكه و ثبة و اثب الي الغضب أو هيجة مهتاج الي الوغي، فكان قبل القتال و في حومة القتال قويا بصيرا ينفض الضعف عن عزائمه، كما ينفض الأسد غبرات الحصباء عن لبده، و لم يخامره الأسف قط في ذلك الموقف المرهوب الا من أجل أحبائه و أعزائه الذين يراهم و يرونه و يسمع صيحتهم و يسمعونه. فقال و هو ينظر الي الأخبية و من فيها: «لله در ابن عباس فيما أشار به علي!».

و جلس ليلة القتال في خيمته يعالج سهاما له بين يديه و يرتجز و أمامه ابنه العليل:



يا دهر أف لك من خليل

كم لك بالاشراق و الأصيل






من صاحب و ماجد قتيل

و الدهر لا يقنع بالبديل



و الأمر في ذاك الي الجليل

و كل حي سالك سبيلي



فرد ابنه عبرته لكيلا يزيده ألما علي ألمه. و سمعته أخته زينب، فلم تقو علي حنانها و وجلها، و خرجت اليه من خبائها حاسرة تنادي:

«و اثكلاه! اليوم مات جدي رسول الله و أمي فاطمة الزهراء و أبي علي و أخي الحسين فليت الموت أعدمني الحياة يا حسيناه! يا بقية الماضين و ثمالة الباقين!»

فبكي لبكائها و لم ينثن ذرة عن عزمه الذي بات عليه، و قال لها:

- يا أخت! لو ترك القطا لنام... و لم يزل يناشدها... و يعزيها و هو في قرارة نفسه مستقر كالطود علي مواجهة الموت و اباء التسليم أو النزول علي «حكم ابن مرجانة» كما قال... ثم احتملها مغشيا عليها حتي أدخلها الخباء...

تزول الممالك و تدول الدول و تنجح المطامع أو تخيب و تحضر المطالب أو تغيب. و هذه الخلائق العلوية في صدر الانسان أحق بالبقاء


من الممالك و ما حوته، و من الدول و ما حفظته أو ضيعته، بل أحق بالبقاء من رواسي الأرض و كواكب السماء...