بازگشت

الحرم المقدس


عرفت قديما باسم «كور بابل» ثم صحفت الي كربلاء، فجعلها هذا التصحيف عرضة لتصحيف آخر يجمع بين الكرب و البلاء، كما رسمها بعض الشعراء...

و لم يكن لها ما تذكر به في أقرب جيرة لها فضلا عن أرجاء الدنيا البعيدة منها... فليس لها من موقعها، و لا تربتها، و لا من حوادثها، ما يغري أحدا يرؤيتها ثم يثبت في ذاكرة من يراها ساعة يرحل عنها.

فلعل الزمن كان خليفا أن يعبر بها سنة بعد سنة و عصرا بعد عصر، دون أن يسمع لها اسم أو يحس لها بوجود... الا أن تذكر «نينوي» و جيرتها فتدخل في زمرة تلك الجيرة بغير حساب.

و شاءت مصادفة من المصادفات أن يساق اليها ركب الحسين بعد أن حيل بينه و بين كل وجهة أخري، فاقترون تاريخها منذ ذلك اليوم بتاريخ الاسلام كله. و من حقه أن يقترن بتاريخ بني الانسان حيثما


عرفت لهذا الانسان فضيلة يستحق بها التنويه و التخليد.

فهي اليوم حرم يزوره المسلمون للعبرة و الذكري، و يزوره غير المسلمين للنظر و المشاهدة، و لكنها لو أعطيت حقها من التنويه و التخليد، لحق لها أن تصبح مزارا لكل آدمي يعرف لبني نوعه نصيبا من القداسة و حظا من الفضيلة، لأننا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل و المناقب أسمي و ألزم لنوع الانسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء، بعد مصرع الحسين فيها.

فكل صفة من تلك الصفات العلوية التي بها الانسان انسان و بغيرها لا يحسب غير ضرب من الحيوان السائم... فهي مقرونة في الذاكرة بأيام الحسين رضي الله عنه في تلك البقعة الجرداء.

و ليس في نوع الانسان صفات علويات أنبل و لا ألزم له من الايمان و الفداء و الايثار و يقظة الضمير و تعظيم الحق و رعاية الواجب و الجلد في المحنة و الأنفة من الضيم و الشجاعة في وجه الموت المحتوم... و هي - و مثيلات لها من طرازها - هي التي تجلت في حوادث كربلاء منذ نزل بها ركب الحسين، و لم تجتمع كلها و لا تجلت قط في موطن من المواطن تجليها في تلك الحوادث، و قد شاء القدر أن تكون في جانب منها أشرف ما يشرف به أبناء آدم، لأنها في الجانب الآخر منها أخزي ما يخزي به مخلوق من المخلوقات...

و حسبك من تقويم الأخلاق في تلك النفوس، أنه ما من أحد


قتل في كربلاء الا كان في وسعه أن يتجنب القتل بكلمة أو بخطوة، و لكنهم جميعا آثروا الموت عطاشا جياعا مناضلين علي أن يقولوا تلك الكلمة أو يخطوا تلك الخطوة، لأنهم آثروا جمال الأخلاق علي متاع الحياة...

أو حسبك من تقويم الأخلاق في نفس قائدها و قدوتها أنهم رأوه بينهم فاقتدوه بأنفسهم، و لن يبتعث المرء روح الاستشهاد فيمن بلازمه الا أن يكون هو أهلا للاستشهاد في سبيله و سبيل دعوته، و أن يكون في سليقة الشهيد الذي يأتم به الشهداء.