بازگشت

صواب الشهداء


و جملة ما يقال ان خروج الحسين من الحجاز الي العراق، كان حركة قوية لها بواعثها النفسية التي تنهض بمثله و لا يسهل عليه أن يكبتها أو يحيد بها عن مجراها..

و انها قد وصلت الي نتائجها الفعالة من حيث هي قضية عامة تتجاوز


الأفراد الي الأعقاب و الأجيال، سواء أكانت هذه القضية نصرة لآل الحسين أم حربا لبني أمية..

انما يبدو الخطأ في هذه الحركة حين ننظر اليها من زاوية واحدة ضيقة المجال قريبة المرمي، و هي زاوية العمل الفردي الذي يراض بأساليب المعيشة اليومية و يدور علي النفع العاجل للقائمين به و الداعين اليه..

فحركة الحسين لم تكن مسددة الأسباب لمنفعة الحسين بكل ثمن و حيثما كانت الوسيلة..

و علة ذلك ظاهرة قريبة..

و هي أن الحسين رضي الله عنه طلب الخلافة بشروطها التي يرضاها و لم يطلبها غنيمة يحرص عليها مهما تكلفه من ثمن و مهما تتطلب من وسيلة...

و هنا غلطة الشهداء..

بل قل: هنا صواب الشهداء..

و من هو الشهيد ان لم يكن هو الرجل الذي يصاب و يعلم أنه يصاب لأن الواقع يخذله و لا يجري معه الي مرماه؟

منذ القدم، أخطأ الشهداء هذا الخطأ، و لو أصابوا فيه لما كانوا شهداء و لا شرفت الدنيا بفضيلة الشهادة..


فالحسين رضي الله عنه قد طلب خلافة الراشدين حيث لا تتسني خلافة الراشدين، أو حيث تتسني الدولة الدنيوية التي يضن بها أصحابها و يتكالبون عليها و يتوسلون اليها بوسائلها..

فكانت عناية بالدعوة و الاقناع أعظم جدا من عنايته بالتنظيم و الالزام..

نزل رسوله الأول مسلم بن عقيل بالكوفة صفر اليدين من المال حتي احتاج فيها أن يقترض سبعمائة درهم هي التي أوصي بردها الي أصحابها قبل قتله...

و تلك عقبة من العقبات التي تعوق الدعوات الكبار، و لكنها علي هذا لم تكن بالعقبة العصية التذليل...

فلو أنه قد طلب المال من وسائله الدنيوية أو السياسية، لما استعصي عليه أن يأخذ منه ما يكفيه. فلعله كان ميسورا له بعد أن تجمع حوله الأنصار و بايع الحسين علي يديه ثلاثون ألفا كما جاء في بعض الروايات.

ففي تلك اللحظة لعله كان يستطيع أن يحيط بقصر الوالي الأموي و يستولي عليه و ينشي ء الحكومة الحسينية فيه. ثم لعله كان يستطيع بعد ذلك أن يوجه الدعاة الي أطراف الدولة الشرقية ليتلقي البيعة و يقيم الولاة و يحشد الأجناد..


فاذا كان هذا فاته حتي خف الأموين لدرء الخطر عنهم و بعثوا الي الكوفة بعبيد الله بن زياد، فقد سيق عبيدالله هذا في يوم من الأيام الي يديه و كان في وسعه أن يبطش به و يستوي علي كرسيه و يحرم يزيد ابن معاوية نصيرا من أعنف أنصاره...

و قد فاته هذا لأن شريعة الخلافة لا تبيحه في رأيه، أو لأنه اعتقد أن الحق بين و أن الباطل بين... فلا حاجة به بعد التمييز بينهما الي فتكة الغدر كما سماها، و لا محل عنده لاهدار الدماء و هو ينعي علي الدولة القائمة أنها تهدر الدماء بالشبهات...

و لقد رأي مسلم أن حق صاحبه في الخلافة قائم علي شي ء واحد و هو اقبال الناس اليه طائعين و مبايعتهم اياه مختارين. فأما و قد تفرقوا عنه رهبة من السلطان أو ضعفا في اليقين، فالرأي عنده أن يكتب الي صاحبه يعلمه بانفضاض الناس عنه و يثنيه عن القدوم، و لا حق له عليهم بعد ذلك حتي يثوبوا اليه... و قيام الخلافة علي هذا الاختيار عقيدة لا نفهمها نحن الآن، و لكن قد يفهمها يومئذ من كان علي مقربة من عهد النبوة و عهد الصديق و الفاروق...

فقد كان الصراع بين الحسين و يزيد أول تجربة من قبيلها بعد عهد النبوة و عهد الخلفاء الأولين..


لم يكن الصراع بين علي و معاوية علي هذا الوضوح الذي لا شبهة فيه بين الحق و الباطل و بين الفضيلة و النقيصة...

لكنه في بيعة الحسين كان قد وضح وضوح الصبح لذي عينين.

و كان ذلك كما قلنا أول تجربة من قبيلها بعد عهد الفداء في سبيل العقيدة و الايمان.. بعد العهد الذي كان الرجل فيه يجرج من ماله و ينفصل من ذويه و يتجرد لحرب أبيه و أخيه و بنيه ان خالفوه في أمر الاسلام....

بعد العهد الذي كان القليل فيه من المسلمين يصدون الكثير من المشركين و في أيديهم السلاح و العتاد و من ورائهم المعاقل و الأزواد... بعد العهد الذي تغير فيه الناس، و خيل الي من كان يعهدهم علي غير تلك الحال أنهم متغيرون...