بازگشت

خطأ الشهداء


خروج الحسين من مكة الي العراق حركة لا يسهل الحكم عليها بمقياس الحوادث اليومية، لأنها حركة من أندر حركات التاريخ في باب الدعوة الدينية أو الدعوة السياسية.... لا تتكرر كل يوم و لا يقوم بها كل رجل و لا يأتي الصواب فيها - ان أصابت - من نحو واحد ينحصر القول فيه، و لا يأتي الخطأ فيها - ان أخطأت - من سبب واحد يمتنع الاختلاف عليه. و قد يكون العرف فيها بين أصوب الصواب و أخطأ الخطأ فرقا صغيرا من فعل المصادفة و التوفيق، فهو خليق أن يذهب الي النقيضين.

هي حركة لا يأتي بها الا رجال خلقوا لأمثالها فلا تخطر لغيرهم علي بال، لأنها تعلو علي حكم الواقع القريب الذي يتوخاه في مقاصده سالك الطريق اللاحب و الدرب المطروق..

هي حركة فذة يقدم عليها رجال أفذاذ، من اللغو أن ندينهم بما يعمله رجال من غير هذا المعدن و علي غير هذه الوتيرة.. لانهم يحسون


و يفهمون و يطلبون غير الذي يحسه و يفهمه و يطلبه أولئك الرجال..

هي ليست ضربة مغامر من مغامري السياسة، و لا صفقة مساوم من مساومي التجارة، و لا وسيلة متوسل ينزل علي حكم الدنيا أو تنزل الدنيا علي حكمه، و لكنها وسيلة من يدين نفسه و يدين الدنيا برأي من الآراء هو مؤمن به و مؤمن بوجوب ايمان الناس به دون غيره.. فان قبلته الدنيا قبلها و ان لم تقبله فسيان عنده فواته بالموت أو فواته بالحياة، بل لعل فواته بالموت أشهي اليه..

هي حركة لا تقاس اذن بمقياس المغامرات و لا الصفقات و لكنها تقاس بمقياسها الذي لا يتكرر و لا يستعاد علي الطلب من كل رجل أو في كل أوان..

و لا ننسي أن السنين الستين التي انقضت بعد حركة الحسين، قد انقضت في ظل دولة تقوم علي تخطئته في كل شي ء و تصويب مقاتليه في كل شي ء..

ان القول بصواب الحسين معناه القول ببطلان تلك الدولة، و التماس العذر له معناه القاء الذنب عليها. و ليس بخاف علي احد كيف ينسي الحياء و تبتذل القرائح أحيانا في تنزيه السلطان القائم و تأثيم السلطان


الذاهب. فليس الحكم علي صواب الحسين أو علي خطئه اذن بالأمر الذي يرجع فيه الي أولئك الصنائع المتزلفين الذين يرهبون سيف الدولة القائمة و يغنمون من عطائها، و لا لصنائع مثلهم يرهبون بعد ذلك سيفا غير ذلك السيف و يغنمون من عطاء غير ذلك العطاء..

انما الحكم في صواب الحسين و خطئه لأمرين لا يختلفان باختلاف الزمان و أصحاب السلطان، و هما البواعث النفسية التي تدور علي طبيعة الانسان الباقية، و النتائج المقررة التي مثلت للعيان باتفاق الأقوال.

و بكل من هذين المقياسين القويين نقيس حركة الحسين في خروجه علي يزيد بن معاوية، فنقول انه قد أصاب..

أصاب اذا نظرنا الي بواعثه النفسية التي تهيمن عليه و لا يتخيل العقل أن تهيمن عليه بواعث غيرها..

و أصاب اذا نظرنا الي نتائج الحركة كلها نظرة واسعة، و لا يستطيع أن يجادل فيها من يأخذ الأمور بسنة الواقع و المصلحة أو من يأخذ الأمور بسنة النجدة و المروءة..

فما هي البواعث النفسية التي قامت بنفس الحسين يوم دعي في المدينة بعد موت معاوية لمبايعة ابنه يزيد؟

هي بواعث تدعوه كلها أن يفعل ما فعل و لا تدعو مثله الي صنيع


غير ذلك الصنيع. و خير لبني الانسان ألف مرة أن يكون فيهم خلق كخلق الحسين الذي أغضب يزيد بن معاوية، من أن يكون جميع بني الانسان علي ذلك الخلق الذي يرضي به يزيد..

فأول ما ينبغي أن نذكره لفهم البواعث النفسية التي خامرت نفس الحسين في تلك المحنة الأليمة، أن بيعة يزيد لم تكن بالبيعة المستقرة و لا بالبيعة التي يضمن لها الدوام في تقدير صحيح..

فهي بيعة نشأت في مهد الدس و التمليق، و لم يجسر معاوية عليها حتي شجعه عليها من له مصلحة ملحة في ذلك التشجيع..

كان المغيرة بن شعبة واليا لمعاوية علي الكوفة، ثم هم بعزله و اسناد ولايته الي سعيد بن العاص جريا علي عادته في اضعاف الولاة قبل تمكنهم، و ضرب فريق منهم بفريق حتي يعينه بعضهم علي بعض و لا يتفقوا عليه. فلما أحسن المغيرة نية معاوية، قدم الشام و دخل علي يزيد و قال له كالمستفهم المتعجب:

- لا أدري ما يمنع أميرالمومنين أن يعقد لك البيعة؟

و لم يكن يزيد نفسه يصدق أنه أهل لها أو أن بيعته مما يتم بين المسلمين علي هينة. فقال للمغيرة:

- أو تري ذلك يتم؟


فأراه المغيرة أنه ليس بالعسير، اذا أراده أبوه..

و أخبر يزيد أباه بما قال المغيرة، فعلم هذا أن فرصته سانحة و أنه سيبادل معاوية رشوة آجلة برشوة عاجلة.. يرشوه باعانته علي بيعة يزيد، و يأخذ منه الرشوة ببقائه علي ولاية الكوفة الي أن يقضي في أمر هذه البيعة، و له في التمهيد لها نصيب..

فلما لقي معاوية سأله هذا عما أخبره به يزيد، فأعاده عليه و هو يزخرفه له بما يرضيه. قال:

- قد رأيت ما كان من سفك الدماء و الاختلاف بعد عثمان، و في يزيد منك خلف فاعقد له، فان حدث بك حادث كان كهفا للناس و خلفا منك، و لا تسفك دماء و لا تكون فتنة.

فسأله معاوية و هو يتهيب و يتأني:

- و من لي بذلك؟..

قال:

- أكفيك أهل الكوفة، و يكفيك زياد أهل البصرة، و ليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك.

فرده معاوية الي علمه كما كان يتمني، و أوصاه و من معه ألا يتعجلوا باظهار هذه النية.. ثم استشار زياد بن أبي سفيان، فأطلع هذا بعض خاصته علي الأمر و هو يقول:

- ان أميرالمومنين، يتخوف نفرة الناس و يرجو طاعتهم... و يزيد


صاحب رسلة و تهاون مع ما قد أولع به من الصيد... فالق أميرالمومنين و أد اليه فعلات يزيد و قل له رويدك بالأمر، فأحري أن يتم لك و لا

تعجل فأن دركا في تأخير خير من فوت في عجلة.

فأشار عليه صاحبه «ألا يفسد علي معاوية رأيه و لا يبغضه في ابنه».

و عرض عليه أن يلقي يزيد فيخبره أن أميرالمومنين كتب اليك يستشيرك في البيعة له و انك تتخوف خلاف الناس لهنات ينقمونها

عليه، و أنك تري له ترك ما ينقم عليه لتستحكم له الحجة علي الناس.

و قالوا ان يزيد كف عن كثير مما كان يصنع بعد هذه النصيحة، و أن معاوية أخذ برأي زياد في التؤدة فلم يجهر بعقد البيعة حتي مات زياد..

و قد أحس معاوية الامتعاض من بيته قبل أن يحسه من الغرباء عنه.

فكانت امرأته «فاختة» بنت قرطة بن حبيب بن عبدشمس تكره بيعة يزيد و تود لو أثر بالبيعة ابنها عبدالله، فقالت له:

- ما أشار به عليك المغيرة؟... أراد أن يجعل لك عدوا من نفسك يتمني هلاك كل يوم.

و اشتدت نقمة مروان بن الحكم - و هو أقرب الأقرباء الي معاوية -


حين بلغته دعوة العهد ليزيد فأبي أن يأخذ العهد له من أهل المدينة، و كتب الي معاوية: «ان قومك قد أبوا اجابتك الي بيعتك». فعزله معاوية من ولاية المدينة و ولاها سعيد بن العاص. فأوشك مروان أن يثور و يعلن الخروج و ذهب الي أخواله من بني كنانة فنصروه و قالوا له:

- نحن نبلك في يديك و سيفك في قرابك. فمن رميته بنا أصبناه و من ضربته قطعناه... الرأي رأيك، و نحن طوع يمينك..

ثم أقبل مروان في وفد منهم كثير الي دمشق، فذهب الي قصر معاوية و قد أذن للناس، فمنعه الحاحب لكثرة من رأي معه فضربوه و اقتحموا الباب. و دخل مروان و هم معه حتي سلم علي معاوية و أغلظ له القول. فخاف معاوية هذا الجمع من وجوه قومه و ترضي مروان ما استطاع، و جعل له ألف دينار كل شهر و مائة لمن كان معه من أهل بيته.

و لم يكن مروان وحده بالغاضب بين بني أمية من بيعة يزيد، بل كان سعيد بن عثمان بن عفان يري أنه أحق منه بالخلافة لأنه ابن عثمان الذي تذرع معاوية الي الخلافة باسمه فقال لمعاوية:


- يا أميرالمومنين.. علام تبايع ليزيد و تتركني!.. فوالله لتعلم أن أبي خير من أبيه و أمي خير من أمه، و أنك انما نلت ما نلت بأبي..

فسري معاوية عنه... و قال له ضاحكا هاشا:

- يا ابن أخي!... أما قولك ان أباك خير من أبيه، فيوم من عثمان خير من معاوية.. و أما قولك ان أمك خير من أمه، ففضل قرشية علي كلبية فضل بين، و أما أن أكون نلت ما أنا فيه بأبيك الملك يؤتيه الله من يشاء... قتل أبوك رحمه الله فتواكلته بنوالعاص و قامت فيه بنو حرب، فنحن أعظم بذلك منة عليك، و أما أن تكون خيرا من يزيد فوالله ما أحب أن داري مملوءة رجالا مثلك بيزيد. ولكن دعني من هذا القول و سلني أعطك، و ولاه خراسان...

فكان أكبر بني أمية أعظمهم أملا في الخلافة بعد معاوية، و كان بغضهم لبيعة يزيد علي قدر أملهم فيها، و هؤلاء - و ان جمعتهم مصلحة الأسرة فترة من الزمن - لم تكن منافستهم هذه ليزيد بالعلامة التي تؤذن بالبقاء و تبشره بالضمان و القرار..

و علي هذا النحو ولدت بيعة يزيد بين التوجس و المساومة و الاكراه... و بهذه الجفوة قوبلت بين أخلص الأعوان و أقرب القرباء...

و ظهر من اللحظات الأولي، ان المغيرة بن شعبة كان سمسارا


يصافق علي ما لا يملك... فقد ضمن الكوفة و البصرة و منع الخلاف في غير هما، فاذا الكوفة أول من كره بيعة يزيد، و اذا البصرة تتلكا في الجواب و واليها يرجي ء الأمر و يوصي بالتمهل فيه فلا يقدم عليه معاوية في حياته، و اذا أطراف الدولة من ناحية همذان تثور، و اذا بالحجاز يستعصبي علي بني أمية سنوات، و اذا باليمن ليس فيها نصير للأمويين، و لو وجدت خارجا يعلن الثورة عليهم لكانت ثورتها كثورة الحجاز...

بل يجوز أن يقال - مما ظهر في حركة الحسين كل الظهور - أن الشام نفسها لم تنطو علي رجل يؤمن بحق يزيد و بطلان دعوي الحسين.

فقد كانوا يتحرجون من حرب الحسين و يتسلل من استطاع منهم التسلل قبل لقائه، الا أن يهدد بقطع الأرزاق و قطع الرقاب.

و الحوادث التي تلت حركة الحسين الي ختام عهد يزيد أدل مما تقدم علي اضطراب عهده و قلة ضمانه، لأن الأحداث و النذر لم تزل تتوالي بقية حياته و بعد موته بسنين.

و نحن اليوم نعلم من التاريخ كيف انتهت هذه الحوادث و النذر في عهد يزيد أو بعد عهده، فيخيل الينا أن عواقبها لم تكن تحتمل الشك و لم يكن بها من خفاء. و لكن الذين استقبلوها كانوا خلقاء ألا يروا فيها طوالع ملك تعنو له الرؤوس و يرجي له طول البقاء.