بازگشت

مكانة الحسين


و اذا كانت المعركة كلها هي معركة الأريحية و النفعية، فالمزية الأولي التي ينبغي توكيدها نا للحسين بن علي رضي الله عنه هي مزية نسبه الشريف و مكانه من محبة النبي عليه الصلاة و السلام...

ان المؤرخ الذي يكتب هذا الحادث قد يكون عربيا مسلما أو يكون من غير العرب، و المسلمين، و قد يؤمن بمحمد أو ينكر محمدا و غيره من الأنبياء.. و لكنه يخطي ء دلالة الحوادث التاريخية اذا استخف بهذه المزية التي قلنا انها أحق مزايا الحسين بالتوكيد في الصراع بينه و بين يزيد.

فليس المهم أن يؤمن المؤرخون بقيمة ذلك النسب الشريف في نفوسهم أو قيمته في علوم العلماء و أفكار المفكرين، و لكنما المهم أن أتباع يزيد كانوا يؤمنون بحق ذلك النسب الشريف في الرعاية و المحبة، و أنهم مع هذا غلبتهم منافعهم علي شعورهم فكانوا من حزب يزيد و لم يكونوا من حزب الحسين...

فلولا هذه المزية في الحسين لما وضح الصراع بين الأريحية و النفعية عند الفريقين، و لا كان المصطرعون هنا و هناك من مزاجين مختلفين،


و لا كان للمعركة كلها تلك الدلالة التي كشفت النفس الانسانية في جانبين منها قويين، يتنازعان حوادث الأمم و الأفراد من زمان بعيد، و سيظلان علي نزاعهما هذا الي زمان بعيد.

و لقد كان الحسين بن علي بهذه المزية أحب انسان الي قلوب المسلمين، و أجدر انسان أن تنعطف اليه القلوب.

كان النبي عليه السلام هو الذي سماه، و سمي من قبله أخاه... قال علي رضي الله عنه: «و لما ولد الحسن سميته حربا فجاء رسول الله فقال: (أروني ابني ما سميتموه؟). قلت: (حرب!). فقال: (بل هو حسن) فلما ولد الحسين سميته حربا، فجاء رسول الله فقال: (أروني ابني... ما سميتموه؟). قلت: (حرب!) فقال: (بل هو حسين)...»

و ذهب ال الحسين و اخوته كل ما في فؤاد النبي عليه السلام من محبة البنين، و هو مشوق الفؤاد الي الذرية من نسله. فكان عليه السلام لا يطيق أذاهما، و لا يحب أن يستمع الي بكاء منهما في طفولتهما، علي كثرة ما يبكي الأطفال الصغار. و خرج من بيت عائشة يوما، فمر علي بيت فاطمة فسمع حسينا يبكي، فقال: «ألم تعامي أن بكاءه يؤذيني؟».

و كان يقول: «ادعي الي ابني».. فيشمهما و يضمهما اليه، و لا يبرح


حتي يضحكهما و يتركهما ضاحكين. و روي أبوهريرة أنه كان عليه السلام يدع لسانه للحسين، فيري الصبي حمرة لسانه فيهش اليه، و كان عيينة بن بدر، شهده في بعض هذه المجالس فقال متعجبا: «يصنع هذا بهذا؟ فوالله ان لي الولد و ما قبلته قط!» قال عليه السلام: «من لا يرحم، لا يرحم؟».

و خرج ليلة في احدي صلاتي العشاء و هو حامل حسنا أو حسينا، فوضعه ثم كبر للصلاة فأطال سجدة الصلاة، قال راوي الحديث:

«فرفعت رأسي فاذا بالصبي علي ظهر رسول الله و هو ساجد فرجعت الي سجودي، فلما قضي صلاة قبل يا رسول الله: انك سجدت بين ظهري صلاتك سجدة أطلتها حتي ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحي اليك..»

قال: «كل ذلك لم يكن... و لكن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله..»

و قام عليه السلام يخطب المسلمين، فجاء الحسن و الحسين و عليهما قميصان أحمران يمشيان و يعثران.. فنزل عليه السلام من المنبر، فحملهما و وضعهما بين يديه ثم قال: «صدق الله!.. (انما أموالكم و أولادكم فتنة).. نظرت الي هذين الصبيين يمشيان و يعثران، فلم أصبر حتي قطعت حديثي و رفعتهما». و لا يوجد مسلم في العصر القديم أو العصر الحديث يحب نبيه كما يحب


المومنون أنبيائهم، ثم يصغر عنده حساب هذا الحنان الذي غمر به قلبه الكريم سبطيه و أحب الناس اليه.. فبهذا الحنان النبوي قد أصبح الحسين في عداد تلك الشخوص الرمزية التي تتخذ منها الأمم و الملل عنوانا للحب، أو عنوانا للفخر، أو عنوانا للألم و الفداء.. فاذا بها محبوب كل فرد و مفخرته، و موضع عطفه و اشفاقه، كأنما تمت اليه وحده بصلة القرابة أو بصله المودة..

و قد بلغ الحسين بهذا الحنان - مع الزمن - مبلغه من تلك المكانة الرمزية فأو شك بعض و اصفيه أن يلحقه في حمله و ولادته و رضاعه بمواليد المعجزات. فقال بعضهم: «لم يولد مولود لستة أشهر و عاش الا الحسين و عيسي بن مريم».و قال آخرون انه رضي الله عنه لم ترضعه أمه و لم ترضعه أنثي «و اعتلت فاطمة لما ولدت الحسين و جف لبنها فطلب رسول الله مرضعة فلم يجد، فكان يأتيه فيلقمه ابهامه فيمصه و يجعل الله في ابهام رسوله رزقا يغذيه، ففعل ذلك أربعين يوما و ليلة، فأنبت الله سبحانه و تعالي لحمه من لحم رسول الله..»و روي عنه غير ذلك كثير من الأساطير التي تحيط بها الأمم تلك الشخوص الرمزية التي تعزها و تغليها فتلتمس لها مولدا غير المولد المألوف، و النشأة المعهودة، و تلحقها أو توشك أن تلحقها بالخوارق و المعجزات..

و لقد كانت حقيقة الحسين الشخصية كفؤا لتلك الصورة الرمزية


التي نسجتها حوله الأجيال المتعاقبة قبل أن يري منه أبناء جيله غير تلك الحقيقة.

فكان مل ء العين و القلب في خلق و خلق، و في أدب و سيرة، و كانت فيه مشابه من جده و أبيه.. الا أنه كان في شدته أقرب الي أبيه. قال رضي الله عنه مشيرا الي الحسن: «ان ابني هذا سيخرج من هذا الأمر، أشبه أهلي بي الحسين». و اتفق بعض الثقات علي أن «الغالب علي الحسين الحلم و الأناة كالنبي، و علي الحسين الشدة كعلي».