بازگشت

اختلاف النشأة


و ندع اختلاف الطبائع و مغامز النسب ثم نظر في اختلاف النشأة و العادة - مع اختلاف الخلقة الجسدية - فنري أنها صالحتان لتفسير الفارق بين أبناء هاشم و أبناء عبدشمس بعد جيلين أو ثلاثة أجيال...

فقد كان بنوهاشم يعلمون في الرئاسة الدينية، و بنوعبدشمس


يعملون في التجارة أو الرئاسة السياسية... و هما ما هما في الجاهلية من الربا و المماكسة و الغبن و التطفيف و التزييف، فلا عجب أن يختلفا هذا الاختلاف بين أخلاق الصراحة و أخلاق المساومة، و بين وسائل الايمان و وسائل الحيلة علي النجاح.

و يتفق كثيرا في الكهانات الوثنية أن يتصف رؤساء الأديان بصفات الرياء و الدهاء و العبث بأحلام الأغرار و الجهلاء، و لكنهم يتصفون بهذه الصفة حين يعلمون الكذب فيما يمارسون من شعائر الكهانة، و مظاهر العبادة، و يتخذونها صناعة يرجونها لمنفعتهم أو لما يقدرون فيها من منفعة أولئك الأغرار و الجهلاء..

أما أبناءهاشم فلم يكونوا من طراز أولئك الكهان المشعوذين، و لا كانوا من المحتالين بالكهانة علي خداع أنفسهم و خداع المؤمنين و المصدقين بل كانوا يؤمنون بالبيت و رب البيت، و بلغ من أيمانهم بدينهم أن عبدالمطلب - جد النبي عليه السلام - أو شك أن يذبح ابنه فدية لرب البيت لأنه نذر «لئن عاش له عشرة بنين لينحرن أحدهم عند الكعبة»، و لم يتحلل من نذره حتي استوثق من كلام العرافة بعد رمي القداح ثلاث مرات.

و الأخلاق المثالية توائم الرئاسة الدينية التي يدين أصحابها بما يدعون اليه.. فان لم تكن في بني هاشم موروثة من معدن أصيل في الأسرة،


فهي أشبه بسمت الرئاسة الدينية و العقيدة المتمكنة و الشعائر المتبعة جيلا بعد جيل، و هي أخلق أن تزداد في الأسرة تمكنا بعد ظهور النبوة فيها، و أن يتلقاها بالوراثة و القدوة أسباط النبي و أقرب الناس اليه..

و أنك لتنحدر مع أعقاب الذرية في الطالبيين - أبناء علي و الزهراء - مائة سنة و أربعمائة سنة، ثم يبرز لك رجل من رجالها فيخيل اليك أن هذا الزمن الطويل لم يعبد قط بين الفرع و أصله في الخصال و العادات...

كأنما هو بعد أيام معدودات لا بعد المئات وراء المئات من السنين، و لا تلبث أن تهتف عجبا: ان هذه لصفات علوية لا شك فيها، لانك تسمع الرجل منهم يتكلم و يجيب من يكلمه، و تراه يعمل و يجزي من عمل له، فلا تخطي ء في كلامه و لا في عمله تلك الشجاعة و الصراحة، و لا ذلك الذكاء و البلاغ المسكت، و لا تلك اللوازم التي اشتهربها علي و آله و تجمعها في كلمتين اثنتين تدلان عليها أو في دلالة، و هما: «الفروسية و الرياضة»...

طبع صريح، و لسان فصيح، و متانة في الأسر يستوي فيها الخلق و الخلق. و نخوة لا تبالي ما يفوتها من النفع اذا هي استقامت علي سنة المروءة و الاباء..

فمن يحيي بن عمر، الي علي بن ابي طالب، خمسة أو ستة أجيال... و لكن يحيي بن عمر يوصف لك، فاذا هو صوة مصغرة من صور علي بن ابي طالب علي نحو من الانحاء، فمن أوصافه التي و صفه بها


الكاتب الأموي أبوالفرج الأصبهاني انه كان «رجلا فارسا، شجاعا، شديد البدن، مجتمع القلب بعيدا عن رهق الشباب و ما يعاب به مثله».

و مما روي عنه «انه كان مقيما ببغداد، و كان له عمود حديد ثقيل يكون معه في منزله، و ربما سخط علي العبد أو الأمة من حشمه.. فيلوي العمود في عنقه فلا يقدر أحد أن يحله عنه حتي يحله يحيي رضي الله عنه.

و لما ضايقه الأمراء و ضنوا عليه بجرايته في بيت المال، كان يجوع و يعرض عليه الطعام فيأباه و يقول: «ان عشنا أكلنا».

ثم ثار و بلغت أنباء ثورته بغداد، فأقبلت عليهم الجموع المحشودة لقتاله، و أسرع اليه بعض الاعراب فصاح به: «أيها الرجل، أنت مخدوع... هذه الخيل قد أقبلت»... فوثب الي متن فرسه فجال به، و حمل علي قائد القوم فضربه ضربة بسيفه علي وجهه.. فولي منهزما و تبعه أصحابه، فجلس معهم ساعة و هو لا يبالي ما يكون.

و لما تكاثرت عليه الجموع و قتل بعد ذلك، اتهم الناس صاحبه الهيضم العجلي انه كان مدسوسا عليه، و انه غرر به لينكص عنه عند احتدام القتال. فأقسم الرجل بالطلاق انه لم يكت له في الهزيمة صنع مدبر... قال: «و انما كان يحيي يحمل وحده و يرجع، فنهيته عن ذلك فلم يقبل... و حمل


مرة كما كان يفعل، فبصرت عيني به و قد صرع في وسط عسكرهم، فلما رأيته قتل انصرفت بأصحابي».

و يحيي الشهيد هذا هو الذي قال ابن الرومي جيميته المشهورة في وصف قتاله و مقتله، و هي طويلة منها قوله يخاطب أمراء زمانه:



فلو شهد الهيجا بقلب أبيكم

غداة التقي الجمعان و الخيل تمعج [1] .



لأعطي يد العاني أو ارتد هاربا

كما ارتد بالقاع الظليم [2] المهيج



و لكنه مازال يغشي بنحره

شبا الحرب حتي قال ذوالجهل: أهوج



و حاشي له من تلكم غير أنه

أبي خطة الأمر الذي هو أسمج



و أين به عن ذاك؟... لا أين - انه

اليه بعرقيه الزكيين محرج



كأني به كالليث يحمي عرينه

و أشباله لا يزدهيه المهجهج






كدأب علي في المواطن قبله

- أبي حسن - و الغصن من حيث يخرج



كأني أراه اذ هوي عن جواده

و عفر بالترب الجبين المشجج



فحب به جسما الي الأرض اذ هوي

و حب به روحا الي الله تعرج



و قد أصاب ابن الرومي الوصف و التعليل، فما كان كل من يحيي و لا أسلافه من قبله الا عليا صغيرا يتأسي بعلي الكبير، أو غصنا زاكيا يخرج من دوحته الكبري، «و الغصن من حيث يخرج» كما قال، و لولا قوة هذه الطبائع في أساس الأسرة الطالبية لما انحدرت علي هذه الصورة الواضحة بعد ستة أجيال. فنحن نري يحيي بن عمر بعد هذه الأجيال - و هو بعموده الحديدي و جرأته التي لا تتزعزع و يقينه الذي لا يلوي به الاغراء و الوعيد - كأنما هو نسخة من جده الكبير الذي يحمل باب خيبر و قد أعيا حمله الرجال، و ينهد لعمرو بن ود و قد تهيبه مئات الأبطال، و يتوسط الصفوف حاسرا و قد برزوا له بشكة القتال و دروع النزال..

و لم يكن لبني أمية - علي نقيض هذا - نصيب ملحوظ من الخلائق


المثالية و الشمائل الدينية، و لا كان ظهور النبوة في أسرة منافسة لأسرتهم من شأنه أن يعزز مناقبها فيهم كما يعتز بها أبناء بيتها و فروع أرومتها.

بل لعله كان من شأنه أن يجنح بهم من طرف خفي الي صفات تقابل تلك الصفات، و مزايا تعوض لهم ما فاتهم من تلك المزايا... فتمكنت فيهم قبل ظهور النبوة و بعدهما خلائقهم العملية التي دربتهم عليها المساومات التجارية و راضهم عليها مراس المطامع السياسية. فاشتهر أناس من رؤوسهم بمحاسن هذه الخلائق و معائبها علي السواء، و شاعت عنهم صفات الحلم و الصبر و الحنكة و الدهاء كما شاعت عنهم صفات المراوغة و الجشع و الاقبال علي الترف و مناعم الحياة.

و لقد تقابل الحسين بن علي و يزيد بن معاوية في تمثيل الأسرتين، كما تقابلا في كثير من الخلائق و الحظوظ.. و لكنها تفاوتا في تمثيل أسرتيهما كما تفاوتا في غير ذلك من وجوه الخلاف بينهم. فكان الحسين بن علي نموذجا لأفضل المزايا الهاشمية و لم يكن يزيد بن معاوية نموذجا لأفضل المزايا الأموية، بل كان فيه الكثير من عيوب أسرته و لم يكن له من مناقبها المحمودة الا القليل.

و ليس لنا هنا أن نفصل القول في أحوال كل من الرجلين و خصائص كل من النموذجين، و لكننا نجتزي ء منهما بما يملا الكفتين في هذا الميزان،


و هو ميزان الأريحية و النفعية في حادث كبير من حوادث التاريخ العربي يندر نظيره في جميع التواريخ.


پاورقي

[1] معج الفرس: أسرع سيره في سهولة.

[2] ذکر النعام.