بازگشت

العباس بن علي بن ابي طالب


ولد سـنـة سـت وعـشرين من الهجرة. وأُمّه اُم البنين، فاطمة بنت حزام بن خالد بن ربيعة بن عامر المـعـروف بـالوحـيـد بـن كـلاب بـن عـامـر بـن ربـيـعـة بـن عامر بن صعصعة. وأُمّها ثمامة بنت سـهـيـل بـن عـامـر بـن مـالك بـن جـعـفـر بـن كـلاب. وأُمـّهـا عـمـرة بـنـت الطـفـيـل فارس قرزل، ابن مالك الأخزم رئيس هوازن، بن جعفر بن كلاب. وأُمّها كبشة بنت عروة الرحّال بن عتبة بن جعفر بن كلاب. وأُمّها أُم الخشف بنت أبي معاوية فارس هوازن، ابن عبادة بن عـقـيل بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة. وأُمّها فاطمة بنت جعفر بن كلاب. وأُمّها عاتكة بـنت عبد شمس بن عبد مناف. وأُمّها آمنة بنت وهب بن عمير بن نصر بن قعين بن الحرث بن ثعلبة بـن ذودان بـن أسد بن خزيمة. وأُمّها بنت حجدر بن ضبيعة الا غرّ بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بـن صـعـب بـن عـلي بـن بكر بن وائل بن ربيعة بن نزار. وأُمّها بنت مالك بن قيس بن ثعلبة. وأُمـّهـا بـنـت ذي الرأسين خشين ابن أبي عاصم بن سمح بن فزارة. وأُمّها بنت عمرو بن صرمة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن الريث بن غطفان.

قـال السـيـد الداودي فـي العـمـدة: إنّ أمـيـرالمـؤمـنـيـن عليه السلام قـال لا خـيـه عـقـيـل ـ وكـان نـسـّابـة عالماً بأخبار العرب وأنسابهم ـ: ابغني إمرأة قد ولدتها الفـحـولة مـن العـرب لأ تـزوّجـهـا فـتـلد لي غـلامـاً فـارسـاً، فـقـال له: أيـن أنـت عـن فاطمة بنت حزام بن خالد الكلابيّة، فإنّه ليس في العرب أشجع من آبائها ولا أفرس [1] .


وفي آبائها يقول لبيد للنعمان بن المنذر ملك الحيرة:



نحن بنو أُم البنين الأربعه

ونحن خير عامر بن صعصعه



الضاربون الهام وسط المجمعه

فـلا يـنـكـر عليه أحد من العرب، ومن قومها ملاعب الأسنّة أبو برأ الذي لم يعرف في العرب مثله في الشجاعة، والطفيل فارس قرزل، وابنه عامر فارس المزنوق، فتزوجها أميرالمؤمنين عليه السلام فولدت له وأنجبت. وأوّل ما ولدت له العبّاس عليه السلام يلقّب في زمنه قمر بني هاشم، ويكنّي أبا الفضل. وبعده عبداللّه، وبعده جعفراً، وبعده عثمان. وعاش العبّاس مع أبيه أربع عشرة سـنـة، حـضـر بـعـض الحـروب فـلم يـأذن له أبـوه بالنزال، ومع أخيه الحسن أربعاً وعشرين سنة، ومع أخيه الحسين عليه السلام أربعاً وثلاثين سنة، وذلك مـدّة عـمـره، وكـان عليه السلام أيـداً شـجـاعـاً فـارسـاً وسـيماً جسيماً يركب الفرس المطهّم ورجلاه تخطان في الأرض.



وروي عـن أبـي عـبـداللّه الصـادق عليه السلام أنـّه قال: (كان عمّنا العبّاس بن علي نافذ البصيرة، صلب الإيمان، جاهد مع أبي عبداللّه عليه السلام، وأبلي بلاء حسناً، ومضي شهيداً) [2] .

وروي عن علي بن الحسين عليه السلام أنّه نظر يوماً إلي عبيداللّه بن العبّاس بن علي عليه السلام فاستعبر ثمّ قـال: (مـا مـن يـوم أشـدّ عـلي رسـول اللّه صلي الله عليه وآله مـن يـوم أحـد، قـتـل فـيـه عـمـّه حـمـزة بـن عـبـدالمـطـلب أسـد اللّه وأسـد رسـوله، وبـعـده يـوم مـؤتـة قـتـل فـيـه ابـن عـمّه جعفر ابن أبي طالب، ولا يوم كيوم الحسين، إزدلف إليه ثلاثون ألف رجـل، يـزعـمـون أنّهم من هذه الأمّة، كلّ يتقرّب إلي اللّه عزّ وجلّ بدمه، وهو يذكّرهم باللّه فلا يـتـّعـظـون، حـتـّي قـتـلوه بـغياً وظلماً وعدواناً، ثمّ قال: (رحم اللّه العبّاس فلقد آثر وأبلي، وفـَدي


أخـاه بـنفسه حتّي قطعت يداه، فأبدله اللّه عزّ وجلّ منهما جناحين يطير بهما مع الملائكة في الجنّة، كما جعل لجعفر بن أبي طالب.

وإنّ للعـبـاس عـنـد اللّه تـبـارك وتـعـالي مـنـزلة يـغـبـطـه بـهـا جـمـيـع الشـهـداء يـوم القـيامة) [3] .

وروي أبـو مـخـنـف أنـّه لمـا مـُنـع الحـسـيـن عليه السلام وأصـحـابـه مـن المـاء وذلك قـبـل أن يـجـمـع علي الحرب إشتدّ بالحسين وأصحابه العطش، فدعا أخاه العبّاس فبعثه في ثـلاثـيـن فارساً وعشرين راجلاً ليلاً، فجاؤا حتّي دنوا من المأ، واستقدم أمامهم باللواء نافع فمنعهم عمرو بن الحجاج الزبيدي، فامتنعوا منه بالسيوف وملأوا قربهم وأتوا بها والعباس بـن عـلي ونـافـع يـذبـان عـنـهـم ويـحـمـلان عـلي القـوم حـتـّي خـلصـوا بـالقـرب إلي الحـسين [4] فسمّي السقّأ وأبا قربة.

وروي أبـو مـخـنف أنّه لما كاتب عمر بن سعد عبيداللّه بن زياد في أمر الحسين عليه السلام وكتب إليه عـلي يـدي شـمـر بـن ذي الجـوشـن بـمـنـازلة الحـسـيـن ونـزوله، أو بـعـزله وتـوليـة شـمـر العـمـل، قام عبداللّه بن أبي المحلّ بن حزام بن خالد بن ربيعة بن عامر الوحيد ـ وكانت عمّته اُمّ البنين ـ فطلب من عبيداللّه كتاباً بأمان العبّاس وإخوته، وقام معه شمر في ذلك، فكتب أماناً وأعـطـاه لعـبـداللّه، فـبـعـثـه إلي العـبـّاس وإخـوتـه مـع مـولي له يـقـال له: كـُزمـان، فـأتـي بـه إليـهـم فـلمـّا قـرأوه قـالوا له: أبـلغ خـالنـا السـلام وقـل له أن لا حـاجـة لنـا فـي الأمـان، أمـانُ اللّه خـيـر مـن أمـان ابـن سـمـيـّة. فـرجـع، قـال: ووقف شمر في اليوم العاشر ناحية فنادي: أين بنو أُختنا، أين العبّاس وإخوته، فلم يـجـبـه أحـد، فـقـال لهـم الحـسـيـن عليه السلام: أجـيـبـوه ولو كـان فـاسـقـاً، فـقـام إليـه العـبـّاس فـقـال له: مـا تـريـد؟ قـال: أنـتـم


آمـنـون يـا بـنـي أُخـتـنـا. فـقـال له العـبـّاس: لعـنـك اللّه ولعـن أمـانـك، لئن كـنـت خـالنـا أتـؤ مـنـّا وابـن رسول اللّه لا أمان له؟ وتكلّم إخوته بنحو كلامه ثمّ رجعوا [5] .

وروي أبـو مـخـنـف أيـضـاً وغـيـره أنّ عـمـر بـن سـعـد نـادي فـي اليـوم التـاسـع: يـا خيل اللّه اركبي وأبشري بالجنّة. فركب الناس وزحفوا، وذلك بعد صلاة العصر، والحسين عليه السلام جالس أمام بيته محتبياً بسيفه وقد خفق علي ركبتيه، فسمعت زينب الصيحة فدنت منه وقالت: أما تـسـمـع الأصـوات يـا أخـي قـد اقـتـربـت! فـرفـع الحـسـيـن عليه السلام رأسـه وأخـبـرهـا بـرؤيـة رسـول اللّه صلي الله عليه وآله وأنـّه يـدعـوه، فـلطـمـت زيـنـب وجـهـهـا وقـالت: يـا ويـلتـاه، فـقـال لهـا: ليـس الويـل لك يـا أُخـيـّة، أُسـكـتـي رحـمـك الرحـمـن. ثـم قـال العـبـّاس له: يـا أخـي قـد أتـاك القـوم فـنـهـض، ثـم قـال: (يـا عـبـّاس، إركـب بـنـفـسـي أنـت حـتـّي تـلقـاهـم فتقول لهم: ما لكم؟ وما بدا لكم؟ وتسألهم عمّا جاء بهم)، فأتاهم العبّاس في نحو عشرين فارساً فيهم زهير وحبيب فقال لهم: ما لكم وما بدا لكم وما تريدون؟ فقالوا: جاء أمر عبيداللّه أن نـَعـرِض عـليـكـم أن تـنـزلوا عـلي حـكـمـه أو نـنـازلكـم. قال: فلا تعجلوا حتّي أرجع إلي أبي عبداللّه فأعرِض عليه ما ذكرتم، فوقفوا ثمّ قالوا: إلقَه فأعلمه ذلك، ثمّ أعلمنا بما يقول. فانصرف العبّاس يركض فرسه إلي الحسين عليه السلام يـُخـبـره، ووقـف أصـحابه يخاطبون القوم حتّي أقبل العبّاس يركض فرسه فانتهي إليهم، فـقـال: يا هؤلاء: إنّ أبا عبداللّه يسألكم أن تنصرفوا هذه العشيّة حتّي ينظر في هذا الأمر، فـإنّ هـذا أمـر لم يـجـر بـينكم وبينه فيه منطق، فإذا أصبحنا التقينا فإمّا رضيناه فأتينا بـالأمـر الذي تـسـألونـه وتـسـومـونـه أو كـرهـنـا فـرددنـاه. قال: وإنّما أراد بذلك أن يردّهم عن الحسين تلك العشيّة حتي يأمر بأمره ويوصي أهله، وقد كان الحسين عليه السلام قال له: (يا أخي أن إستطعت أن تؤ خّرهم هذه العشيّة إلي غدوة،


وتدفعهم عنّا لعـلّنـا نـصـلّي لربـنا الليلة وندعوه ونستغفره، فهو يعلم أني قد كنت أحبّ الصلاة له وتلاوة كـتـابـه وكـثـرة الدعـاء والإسـتـغـفـار)، فـقـال لهـم العـبـّاس مـا قـال، فـقـال عمر بن سعد: ما تري يا شمر؟ فقال: ما تري أنت، أنت الأمير والرأي رأيك، فـقـال: قـد أردت أن لا أكـون ذا رأي. ثـمّ أقـبـل عـلي النـاس فقال: ماذا ترون؟ فقال عمرو بن الحجاج: سبحان اللّه! واللّه لو كانوا من الديلم ثمّ سألوك هذه المنزلة لكان ينبغي لك أن تجيبهم إليها. وقال قيس بن الأشعث: لا تجبهم إلي ما سألوك فـلعـمـري ليـصبحنّك بالقتال غدوة. فقال: واللّه لو أعلم أن يفعلوا ما أخّرتهم العشيّة، ثمّ أمر رجلاً أن يدنوا من الحسين عليه السلام بحيث يسمع الصوت فينادي: إنّا قد أجّلناكم إلي غدٍ، فإن استسلمتم سرّحنا بكم إلي الأمير، وإن أبيتم فلسنا تاركيكم [6] .

وروي أهـل السـيـر عـن الضـحـّاك بـن قـيـس المـشـرقـي، قـال: إنّ الحـسـيـن عليه السلام جـمـع تـلك الليـلة أهـل بـيـتـه وأصـحـابـه فـخـطـبـهم بخطبته التي قـال فـيـهـا: (أمـّا بـعـد: فـإنـّي لا أعـلم أهـل بـيـت إلخ). فـقـام العـّبـاس فـقـال: لِمَ نـفـعـلُ ذلك؟! لنـبـقـي بـعـدك؟! لا أرانـا اللّه ذلك أبـداً [7] ثـمّ تكلّم أهل بيته وأصحابه بما يشبه هذا الكلام، وسيذكر بعد.

قـالوا: ولمـّا أصـبـح ابن سعد جعل علي ربع المدينة عبداللّه بن زهير بن سليم الأزدي، وعلي ربع مذحج وأسد عبدالرحمن بن أبي سبرة الجعفي، وعلي ربع ربيعة وكندة قيس بن الأشعث بن قـيـس، وعـلي ربـع تـمـيـم وهـمـدان الحـر بـن يـزيـد الريـاحـي، وجـعـل المـيـمـنـة لعـمـرو بـن الحـجـاج الزبـيـدي، والمـيـسـرة لشـمر بن ذي الجوشن الضبابي، والخـيـل لعـزرة بـن قـيـس الأحـمـسـي، والرجـال لشـبـث بـن ربـعـي، وأعـطي الراية لدريد


مولاه [8] .

ولمـّا أصـبـح الحـسـيـن عليه السلام جـعـل المـيـمـنة لزهير، والميسرة لحبيب، وأعطي الراية أخاه العبّاس [9] .

وروي أبـو مـخـنـف عـن الضـحـّاك بن قيس أنّ الحسين عليه السلام لمّا خطب خطبته علي راحلته ونادي في أولها بأعلي صوته: (أيّها الناس، إسمعوا قولي ولا تعجلوني). سمع النساء كلامه هذا فـصـحـن وبـكـيـن وارتـفـعـت أصـواتـهـن، فـأرسـل إليـهـنّ أخـاه العـبـّاس وولده عـليـّاً وقـال لهـما: أسكتاهنَّ فَلَعمري ليكثرنّ بكاؤ هنّ، فمضيا يسكتاهنّ حتّي إذا سكتن عاد إلي خطبته. فـحـمـد اللّه وأثـنـي عـليـه وصـلّي علي نبيّه. قال: فواللّه ما سمعت متكلماً قط لا قبله ولا بعده أبلغ منه منطقاً [10] .

وقـال أبـو جـعـفـر وابن الأثير: لما نشبت الحرب بين الفريقين تقدم عمر بن خالد ومولاه سعد، ومـجـمّع بن عبداللّه، وجنادة بن الحرث فشدوا مُقدمين بأسيافهم علي الناس، فلمّا وغلوا فيهم عـطـف عـليهم الناس فأخذوا يحوزونهم، وقطعوهم من أصحابهم، فندب الحسين عليه السلام لهم أخاه العـبّاس فحمل علي القوم وحده، فضرب فيهم بسيفه حتّي فرّقهم عن أصحابه وخلص إليهم فـسلّموا عليه فأتي بهم، ولكنّهم كانوا جرحي فأبوا عليه أن يستنقذهم سالمين، فعاودوا القتال وهو يدفع عنهم حتّي قتلوا في مكان واحد [11] فعاد العبّاس إلي أخيه وأخبره بخبرهم.

قـال أهـل السـير: وكان العبّاس ربما ركز لواءه أمام الحسين وحامي عن أصحابه


أو استقي ماء فكان يلقّب بالسقّاء. ويكنّي أبا قربة بعد قتله.

قـالوا: ولمـّا رأي وحـدة الحـسـيـن عليه السلام بـعـد قـتـل أصـحـابـه وجـمـلة مـن أهـل بـيته، قال لاخوته من أُمّه: تقدّموا لأحتسبكم عند اللّه تعالي، فإنّه لا ولد لكم. فتقدّموا حـتـّي قـتـلوا، فـجـاء إلي الحـسـيـن عليه السلام واسـتـأذنـه فـي المـصـال [12] ، فـقـال له: (أنـت حـامـل لوائي)، فـقال: لقد ضاق صدري وسئمت الحياة. فقال له الحسين: (إن عزمت فاستسق لنا ماء)، فأخذ قربته وحمل علي القوم حتّي ملأ القربة. قالوا: واغترف من الماء غرفة ثمّ ذكر عطش الحسين عليه السلام فرمي بها وقال:



يا نفس من بعد الحسين هوني

وبعده لا كنت أن تكوني



هذا الحسين وارد المنون

وتشربين بارد المعين



ثـمّ عـاد فـأُخـذ عـليـه الطـريـق، فـجـعـل يـضـربـهـم بـسـيـفـه وهـو يقول:



لا أرهب الموت إذا الموت زقا

حتي أُواري في المصاليت لقي



إنّي أنا العبّاس أغدو بالسقا

ولا أهاب الموت يوم الملتقي



فـضـربـه حـكـيـم بـن طـفـيـل الطـائي السـنـبـسـي علي يمينه فبرأها، فأخذ اللواء بشماله وهو يقول:



واللّه إن قطعتم يميني

إنّي أُحامي أبداً عن ديني



فـضـربـه زيـد بـن ورقـاء الجـهـنـي عـلي شـمـاله فـبـرأهـا، فـضـمّ اللواء إلي صـدره كـمـا فـعـل عـمـّه جـعـفـر إذ قـطـعـوا يـمـيـنـه ويـسـاره فـي مـؤ تـة، فـضـمّ اللواء إلي صـدره وهـو يقول:



ألا ترون معشر الفجّار

قد قطعوا ببغيهم يساري



فحمل عليه رجل تميمي من أبناء أبان بن دارم فضربه بعمود علي رأسه فخرّ صريعاً إلي الأرض، ونادي بأعلي صوته: أدركني يا أخي. فانقض عليه أبو عبداللّه


كالصقر فرأه مـقـطـوع اليـمـيـن واليـسار مرضوخ [13] الجبين مشكوك العين بسهم مرتثاً بالجراحة، فـوقـف عـليـه مـنـحـنـيـاً، وجـلس عـنـد رأسـه يـبـكـي حـتـّي فـاضـت نـفـسـه، ثـم حـمـل علي القوم فجعل يضرب فيهم يميناً وشمالاً فيفرّون من بين يديه كما تفرُّ المعزي إذا شدّ فيها الذئب، وهو يقول: أين تفرّون وقد قتلتم أخي؟! أين تفرّون وقد فتتم عضدي؟! ثمّ عاد إلي مـوقـفـه مـنـفـرداً. وكـان العـبـّاس آخـر مـن قـتـل مـن المـحـاربـيـن لأعـداء الحـسـيـن عليه السلام، ولم يقتل بعده إلاّ الغلمان الصغار من آل أبي طالب الذين لم يحملوا السلاح.

وفيه يقول الكميت بن زيد الأسدي:



وأبو الفضل إنَّ ذكرَهم الحلوَ

شفاءُ النفوس في الأسقام



قتل الأدعياء إذ قتلوه

أكرم الشاربين صوب الغمام



ويقول حفيده الفضل بن محمّد بن الفضل بن الحسن بن عبيداللّه بن العبّاس:



إنّي لا ذكر للعباس موقفه

بكربلاء وهام القوم تختطف



يحمي الحسين ويحميه علي ظمأٍ

ولا يولّي ولا يثني فيختلف



ولا أري مشهداً يوماً كمشهده

مع الحسين عليه الفضل والشرف



أكرم به مشهداً بانت فضيلته

وما أضاع له أفعاله خلف



وأقول:



أمسندٌ ذاك اللوا صدره

وقد قطعت منه يمني ويسري



لثنّيت جعفر في فعله

غداة استضمّ اللوا منه صدرا



وأبقيت ذكرك في العالمين

يتلونه في المحاريب ذكرا



وأوقفت فوقك شمس الهدي

يدير بعينيه يمني ويسري






لئن ظل منحنياً فالعدي

بقتلك قد كسروا منه ظهرا



وألقوا لواه فلفّ اللواء

ومن ذا تري بعد يسطيع نشرا



نأي الشخص منك وأبقي ثناك

إلي الحشر يدلج فيه ويسري



وأنـا أسـتـرق جـدّاً مـن رثـاء أُمـّه فـاطـمة أُمّ البنين الذي أنشده أبو الحسن الأخفش في شرح الكـامـل: وقـد كـانـت تـخـرج إلي البـقـيـع فـي كـلّ يـوم تـرثـيـه وتـحمل ولده عبيداللّه فيجتمع لسماع رثائها أهل المدينة وفيهم مروان بن الحكم فيبكون لشجيِّ الندبة، قولها رضي اللّه عنها:



يا من رأي العبّاس كرَّ

علي جماهير النقد



ووراه من أبناء حيدر

كل ليث ذي لبد



أُنبئت أنّ ابني أُصيب

برأسه مقطوع يد



ويلي علي شبلي أما

ل برأسه ضرب العمد



لو كان سيفك في يد

يك لما دنا منه أحد



وقولها:



لا تدعُوَنّي ويكِ أُمَّ البنين

تذكّريني بليوث العرين



كانت بنون ليَ أُدعي بهم

واليوم أصبحت ولا من بنين



أربعة مثل نسور الربي

قد واصلوا الموت بقطع الوتين



تنازع الخرصان أشلائهم

فكلهم أمسي صريعاً طعين



يا ليت شعري أكما أخبروا

بأنّ عبّاساً قطيع اليمين



وروي جـمـاعـة عـن القـاسـم بن الأصبغ بن نباتة قال: رأيت رجلاً من بني أبان بن دارم أسود الوجـه وقـد كـنـت أعـرفـه شـديـد البـيـاض جميلاً، فسألته عن سبب تغيّره وقلت له: ما كدت أعرفك. فقال: إنّي قتلت رجلاً بكربلا وسيماً جسيماً، بين عينيه أثر السجود، فما بتُّ ليلة مـنـذ قتلته إلي الآن إلاّ وقد جائني في النوم، وأخذ بتلابيبي


وقادني إلي جهنّم فيدفعني فيها فـأظـل أصـيـح، فـلا يـبـقـي أحـد فـي الحـيّ إلاّ ويـسـمـع صـيـاحـي، قـال: فـانـتـشـر الخـبـر، فـقـالت جارة له: إنّه ما زلنا نسمع صياحه حتّي ما يدعنا ننام شيئاً من الليـل، فـقـمـت فـي شـباب الحي إلي زوجته فسألناها، فقالت: أما إذا أخبر هو عن نفسه فلا أبعد اللّه غيره، قد صدقكم. قال: والمقتول هو العبّاس بن علي عليه السلام [14] .

(ضبط الغريب)

ممّا وقع في هذه الترجمة:

(الأيـّد): كـسـيـّد: القـوي.

(الوسـيـم): مـن الوسـامـة وهـي الجمال.

(المطهّم): كمحمد: السمين الفاحش السمن العالي، وهذه كناية عن طوله وجسامته عليه السلام.

(إزدلف): أي سـار إليه وقرب منه.

(يغبطه): أي يتمنّي أن يكون مثله بلا نقصان من حظّه.

(خلصوا): وصلوا.

(بنفسي أنت): أي فديتك بنفسي. ويمضي في بعض الكتب بنفسك وليس ‍ به.

(ركـض): أي ضرب الفرس برجله، قال اللّه تعالي (اركض برجلك) [15] ، فأمّا بمعني عدا فليس صحيحاً.

(الضـحـّاك بـن قيس): المشرقي من همدان، هذا جاء إلي الحسين عليه السلام هو ومالك ابن النضر الأرحبي أيـّام المـوادعـة يـسلّمان عليه، فدعاهما لنصرته فاعتذر مالك بدَينه وعياله وأجاب الضحّاك عـلي شـريـطـة أنـّه إن رأي نصرته لا تفيد الحسين عليه السلام فهو في حلّ، فرضي الحسين عليه السلام منه حـتـّي إذا لم يـبـق مـن أصـحـابـه إلاّ نـفـران جـاء إلي


الحـسـيـن عليه السلام وقـال له: شـريـطـتـي، قـال: نعم، ولكن أنّي لك النجاء؟! إن قدرت علي ذلك فأنت في حلّ. فـأقـبـل عـلي فـرسـه، وقـد كـان خـبـّأهـا بـيـن البـيـوت حـيـن رأي الخيل تعقر، وقاتل راجلاً، فاستخرجها ثمّ استوي علي متنها حتّي إذا قامت علي السنابك رمي بها عـرض القـوم فـأفـرجـوا له، وتـبـعه خمسة عشر فارساً حتّي انتهي إلي شفية فلحقوه، وعطف عـليـهـم فـعـرفـه كـثـيـر بـن عـبـداللّه الشـعـبـي وأيـّوب بن مشرح الخيواني، وقيس بن عبداللّه الصائدي، فناشدوا اللّه أصحابهم الكفّ عنه، فنجا، فهو يخبر عن جملة ممّا وقع للحسين عليه السلام وأصحابه في المقاتلة.

(عـبـداللّه بـن زهير): بن سليم الأزدي كان من أصحاب أميرالمؤمنين عليه السلام وله ذكر في الحروب والمغازي وولي الأعمال لآل أُميّة.

(عـبـدالرحـمـن بـن أبـي سـبـرة): يـزيـد بـن مـالك بـن عـبـداللّه بـن ذويـب بن سلمة بن عمرو بن ذهـل بـن مـران بـن جـعـفـي، وفـد هـو وأخـوه سـبـرة مـع أبـيـه عـلي رسـول اللّه صلي الله عليه وآله وكـان اسـمـه عـزيـزاً فـسـمـّاه رسول اللّه صلي الله عليه وآله عبدالرحمن، وله مع صحبته أفعال ذميمة [16] .

(فـإنـّه لا ولد لكـم): يـعـني بذلك إنّكم إن تقدمتموني وقتلوكم لم تبق لكم ذرية فينقطع نسب أميرالمؤمنين عليه السلام منكم فيشتدّ حزني ويعظم بذلك أجري.

وزعـم بـعـض النـاس أنـّه يـعـنـي لأحـوز مـيـراثكم فإذا قتلت خلص لولدي. وهذا طريف، فإنّ العـبـّاس أجـلّ قـدراً مـن ذلك، ولمـا ذكـرتـه فـي مـراده نـظـيـر، وهـو قول عابس ‍ لشوذب الذي يأتي ذكره، وسأنبّه عليه هناك إن شأ اللّه.

(زقـا): صـاح، تـزعـم العـرب أنّ للمـوت طـائراً يـصـيـح ويـسـمـّونـه الهـامـة، ويـقـولون إذا قتل الإنسان ولم يؤخذ بثأره زقت هامته حتّي يثأر.


قال الشاعر:



فإن تك هامة بهراة تزقو

فقد أزقيت بالمروين هاما



(المصاليت): جمع مصلات وهو: الرجل السريع المتشمر.

قال عامر بن الطفيل:



وإنّا المصاليت يوم الوغا

إذا ما المغاوير لم تقدم



(السنبسي): بالسين المهملة وبعدها النون ثمّ الباء المفردة والسين والياء المثنّاة تحت منسوب إلي سنبس بطن من طي.

(ورقاء): بالواو والراء المهملة والقاف والمد، ويمضي في بعض الكتب (رقاد) وهو تصحيف.

(النقد): جنس من الغنم قصار الأرجل قباح الوجوه فمعني البيت (يا من رأي العبّاس) وهو إسم للأسد. كرّ علي جماعات الغنم المعروفة بالنقد وهو بديع.

(تلابيبي): جمع تلبيب وهو: موضع اللبب من الثياب. واللبب موضع القلادة من الصدر.


پاورقي

[1] عمدة الطالب: 324 بتفاوت في بعض الکلمات.

[2] الخصال: 86، باب الإثنين، عمدة الطالب: 323.

[3] الخصال: 68، باب الإثنين، ح 101.

[4] تاريخ الطبري: 3: 312، بتفاوت وسقط في بعض الکلمات.

[5] تاريخ الطبري: 3: 313.

[6] تاريخ الطبري: 3: 313، وأورده الشيخ المفيد في الإرشاد 2: 90.

[7] راجع الإرشاد: 2: 91.

[8] في الأخبار الطوال: 256، لزيد، وفي بعض نسخ الإرشاد: دويدا وذويدا. وهو تصحيف ظاهر. راجع الإرشاد: 2: 96، والکامل: 4: 60.

[9] راجع الأخبار الطوال: 256، والإرشاد: 2: 95.

[10] تاريخ الطبري: 3: 319 بتفاوت.

[11] تاريخ الطبري: 3: 330، الکامل: 4: 74.

[12] هکذا في الأصل، ولعلّه المصاع: أي القتال والجلاد. أو لعلّه المصاولة.

[13] قال ابن منظور: والرَّضخ: کسر الرأس. راجع لسان العرب: 5: 229.

[14] مناقب ابن شهرآشوب: 4: 58.

[15] سورة ص: 42.

[16] لاحظ ترجمته في أُسد الغابة: 5: 206، وجمهرة أنساب العرب للأندلسي: 409.