بازگشت

خطب الحسين في كربلاء



المقدمة

فقال : «إن ّ الدنيا فقد تغيّرت و تنكّرت ، وادبر معروفها، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعي الوبيل ، الا ترون ان الحق لا يعمل به ، و الباطل لا يُتناهي عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله حقاً، فإنّي لا اري الموت إلاّ سعادة ، و الحياة مع الظالمين إلاّ برما».

روي السيد ابن طاووس هذه الخطبة عن الحسين (ع) في اللهوف ،و قال : إنّه (ع) القاها في كربلاء.

ورواها ابن عبد ربّه في (العقد الفريد: 2/312)، وابو نُعيم الاصبهاني في (حلية الاولياء: 3/39) و (ابن عساكر: 4/333) عن الحسين (ع) في كربلاء، كما رواها ـ السيد في اللهوف ـ ورواها الطبري في (التاريخ : 6/229) وقال إنّه (ع) القاها في الطريق إلي كربلاء في (ذي حسم ).

و مهما يكن من امر الموقع والمكان الذي القي الحسين (ع) فيه هذه الكلمات ، فإن ّ هذه الكلمات ترسم لنا صورة دقيقة عن العصر الذي عاشه الإمام الحسين (ع)، والمصائب والنكبات التي حلّت بالمسلمين فيه .

وتتضمّن هذه الكلمات ثلاث فقرات ، حرية بالدراسة و التامّل ئ:

1 ـ حال الدنيا في عصره : (الحالة الاجتماعية و السياسية و الروحيّة في عصر الإمام (ع)).

2 ـ إعراض الناس عن الحق و إقبالهم علي الباطل .

3 ـ العزوف عن الدنيا والشوق إلي لقاء الله.

وفيما يلي سنتوقف وقفات قصيرة عند هذه الفقرات الثلاث من كلام الإمام (ع).


حالة الدنيا في عصر الامام

يقول الإمام (ع): «إن ّ الدنيا قد تغيّرت وتنكّرت ، و ادبر معروفها، ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء وخسيس عيش كالمرعي الوبيل ».

إن ّ هذه الدنيا قد تغيّرت كثيراً عمّا كانت عليه في عهد رسول الله (ص). والتغيير علي نحوين ، فقد يتغيّر الشي ء، ولكن ّ لا يفقد معالمه الاساسية ،و قد يتغيّر شي ء فيتنكر للإنسان ، فلا يعرفه الناس .

و التغيير الذي حدث للناس و للمجتمع في فتنة بني اُمية كان من النوع الثاني (إن ّ الدنيا قد تغيّرت و تنكرّت ».

إن ّ الذي حدث للمسلمين ـ في هذه الفتنة ـ ردّة إلي الاعراف و القيم الجاهلية ، لم ينقلب الناس عن الإسلام في هذه الفتنة . ولكن ّ الاعراف و القيم و الافكار الجاهلية ، عادت كما كانت ، و استعاد بنو اُمية مواقع النفوذفي المجتمع الجديد، كما كانوا يحتلّونها من قبل في الحياة الجاهلية ، بنفس الافكار والقيم والمفاهيم .

وهذا الانحراف المخيف تم ّ خلال نصف قرن فقط بعد وفاة رسول الله (ص).

والذي يدخل اليوم قصور خلفاء بني اُمية و عمّالهم في الولايات لايجد شبهاً بينهم و بين ما جاء في كتاب الله و سنّة رسول الله(ص) في حياتهم العامّة و الخاصّة . إن ّ الذي جاء في كتاب الله، وحدّث به رسول الله (ص) وارانامن سلوكه العام و الخاص يختلف عمّا نعرف في قصور بني اُمية و ترفهم و إسرافهم وعدوانهم اختلافاً كبيراً. و الذي يعرف الكتاب و السنّة مقياسين للحياة يتنكّر لا محالة لما كان عليه بنو اُمية ، ولا يجد سبيلاً إلي التوفيق بينهما. و هذا هو الذي يحدّثنا عنه السبط الشهيد (ع): «إن ّ الدنيا قد تغيّرت و تنكّرت ».

ثم يقول (ع): «وادبر معروفها» وهو حالة السقوط الحضاري في التاريخ . فإن ّ الاُمم في حالة الصعود تقبل علي المعروف ، وينبع المعروف عنها، كما ينبع الماء من الارض ، و هي علامة سلامة الفطرة و العقل و الضمير في الاُمم ، وهي حالة العروج الحضاري و العقلي و الإنساني ، وإذانضبت الفطرة و الضمير والقلوب عن المعروف ، و شح ّ معروفها كان ذلك إيذاناً بالسقوط الحضاري ، وبين المعروف و العروج و السقوط الحضاريين علاقة ثابتة .

فكل ّ عروج حضاري في حياة الإنسان ينشا من تدفّق الفطرة بالمعروف ، و كل سقوط حضاري ينشا من نضوب الفطرة الإنسانية ولابدّ لهذا الإجمال من إيضاح .

إن ّ الفطرة والإنسان في حالات السلامة تتدفّق بالخير والرحمة و الإيمان و الإخلاص والصلاح و الإيثار و التقوي و النزاهة و الوفاء و الشكر و العفاف و الترفع عن السقوط و الصدق و الامانة و المعرفة و العدل و امثالها، وهذا هو المعروف في حياة الإنسان ، كما يقول القرآن ، ويسمّيه القرآن معروفاً، لان ّ الفطرة تعرفه .

كما ان الفطرة السليمة تنكر الإلحاد والجحود والكفران والإثرة و الخيانة و الكذب و الظلم و الإسراف والجبن والياس وتقلّب الراي و الموقف و التخاذل و تتجنّبها، وهذه هي المنكرات كما يسمّيها القرآن ،ويسمّيها القرآن بالمنكر؛ لان ّ الفطرة تنكره .

فإذا فقد الإنسان سلامة الفطرة لم يعد يجذبه المعروف ، ولا يُنفّره المنكر.

كما إن ّ الإنسان إذا كان يتمتع بسلامة الحس و الذوق تجذبه الطيبات ،وينفر من الخبائث ، فإذا فقد الحس لم يعد تجذبه الطيبات و لا تُنفّره الخبائث .

والامر في الفطرة ادهي من ذلك ؛ فإن ّ الإنسان إذا فقد سلامة الفطرة و الضمير لا يفقد فقط القدرة علي التمييز بين المعروف والمنكر كما كان الامر في فقدان الحواس ، و إنّما ينعكس الامر عنده فتجذبه المنكرات ويميل اليها، ويُنفّره المعروف ويكرّهه ، وهذه هي حالة مسخ النفوس و الفطرة .

وإذا فقد الإنسان سلامة الفطرة فقد بالضروة سلامة الضمير، فإن ّ الضمير رقيب علي الفطرة ، ويقوم بدور الحارس الامين علي سلامة الفطرة ، حتّي ينفذ آخر ما اودع الله فيه من المقاومة .

ولابدّ ان نضيف هنا قبل ان نغادر الحديث عن هذه النقطة من كلام الإمام (ع) ان ّ فساد الفطرة والضمير في نفوس الناس لا يتمّان بصورة قهريّة عن إرادة الإنسان و اختياره ، وإن كانت الآثار المترتبة علي فساد الفطرة والضمير قهريّة خارجة عن اختيار الإنسان ، إلاّ ان الله تعالي ملّك الإنسان امر ضميره وفطرته ، ولا يفسد هذا او ذاك إلاّ من خلال سوءاختيار الإنسان وإرادته .

ومهما يكن من امر في هذه المقولة التي يوجزها الحسين (ع) عن حال الاُمّة ؛ فما هي الفتنة التي الّمت بالمسلمين ؟ نقول : إن ّ نبوع المعروف من نفس الإنسان إمارة سلامة الإنسان ، ونضوب منابع المعروف في نفس الإنسان امارة ظهور الفساد في حياة الإنسان .

و بين نزول رحمة الله علي الإنسان وتدفق المعروف من نفس الإنسان ونضوبها علاقة وصلة .

فإن ّ رحمة الله تعالي هابطة باتصال ، ولا تنقطع الرحمة عن الكون و الإنسان لحظة واحدة . ولكن ّ لهذه الرحمة منازل في حياة الإنسان تنزل عليها. و من هذه المنازل سلامة نفس الإنسان . فالنفوس و القلوب السليمة اوعية و منازل لرحمة الله. فإذا مرضت و فسدت النفوس و القلوب ، و شح ّ معروفها يقل ّ حظّها من رحمة الله وبركاته او ينقطع عنها. و ليس في رحمة الله شح ّ او انقطاع ، ولكن ّ النفوس والقلوب ترفض هذه الرحمة و تعرض عنها إذا ادبر معروفها. يقول تعالي : (إِن َّ اللَّه َ لاَ يُغَيِّرُ مَابِقَوْم ٍ حَتَّي يُغَيِّرُوا مَا بِاَنفُسِهِم ).

ولم يبق منها إلاّ صبابة كصبابة الإناء:

(صبابة الإناء) ما يبقي في الإناء من قطرات الماء بعدما يراق ما فيها من الإناء، هذه القطرات لا تغني عن الظما، ولا تروي إنساناً ولا حيواناً،وكذلك عندما تنضب فطرة الإنسان من المعروف ـ إلاّ من صبابة كصُبابة الإناء ـ فلا يُرجي من هذا الإنسان خير.

إن ّ الفطرة معين المعروف ، والمعروف هو ما تعرفه الفطرة ، والمنكرهو ما تنكره الفطرة ، فإذا نضبت الفطرة من المعروف فسدت الفطرة ، و بفساد الفطرة يفسد الإنسان والمجتمع .

وقد قلت من قبل : إن ّ الفطرة عندما يصدر عنها الخير و المعروف تنزل عليها رحمة الله وبركاته ، وعندما تنضب وتشح ّ لا تلقي هذه الرحمة النازلة من لدن الله تعالي .

وخسيس عيش كالمرعي الوبيل : إن ّ (العيش ) ليس فقط عيش الاجسام ؛ فإن ّ للقلوب و العقول و النفوس كذلك (عيشاً) كما للاجسام ، وكما تموت الاجسام إذا فقدت ماتعيش به كذلك تموت القلوب و العقول و النفوس إذا فقدت ما تعيش به .و موت القلوب و العقول و الضمائر اخطر من موت الاجسام .

و الإمام (ع) يقول في هذه الكلمة : إن ّ الذي يبقي للناس من عيش القلوب و النفوس والعقول في هذه الفتنة لا يغني عن جوع ، و لا يروي من ظما و لا يحفظ الإنسان من الفساد والسقوط ... كالمرعي الوبيل ... ارايت المرعي الوبيل الذي اكتسحه الوباء، كيف يصفرّ و يجف ّ فيبقي هنا وهناك عشب اخضر قليل بين اعشاب كثيرة قد جفّت و اصفرّت ، و ماتت اوذبلت .

كذلك المجتمع الذي داهمته هذه الفتنة يومئذ، كان كالمرعي الذي اكتسحه الوباء (المرعي الوبيل ) فقد اكتسحت هذه الفتنة كل ما في نفوس الناس من المعروف ، ولم يبق في نفوس الناس من معروف إلاّ كما يبقي في الإناء من صبابة بعد ما اُريق ما فيها من الماء، لا يروي من ظما.


اعراض الناس عن الحق و اقبالهم علي الباطل

يقول الإمام (ع): «الا ترون ان ّ الحق لا يُعمل به و الباطل لا يُتناهي عنه »؟

هذا هو المقطع الثاني من خطاب الإمام للناس و هو إمارة نضوب الفطرة وجفاف الضمير.

الا ترون ان ّ الحق ّ لا يُعمل به ؟ ولو كانت الفطرة متدفّقة في نفوس الناس لم يتوقف الناس عن العمل بالحق ، و إذا فسدت الفطرة في نفس الإنسان لا يجد الإنسان في نفسه دافعاً يدفعه إلي العمل بالحق .

و كذلك (الباطل ) إن ّ الفطرة إذا كانت سليمة و الضمير إذا كان سليماً يرفضان الباطل وينكرانه ، كما ينكر الشي ء الحسن الاشياء الرديئة و المكروهة .

فإذا بطل الإحساس عند الإنسان لم ينكر ما ينكره الناس الاسوياء! كذلك الضمير و الفطرة في نفس الإنسان إذا استفاقا وسلما يحق الإنسان الحق و يبطل الباطل ، ويعمل بالحق و يتناهي عن الباطل ، و يردع عنه ، وإذا فسد ضميره و فطرته لا يجد في نفسه داعياً للعمل بالحق ، ولا رادعاً عن الباطل .

هذه صورة دقيقة عن المصيبة التي حلّت بالناس في فتنة بني اُمية ، يصوّرها الإمام (ع) يوم عاشوراء او في منزل (ذي حسم ) للناس بهذه الصورة .


العزوف عن الدنيا و الشوق الي لقاء الله

يقول الإمام (ع): «ليرغب المؤمن في لقاء الله، فإنّي لا اري الموت إلاّ سعادة و الحياة مع الظالمين إلاّ برما».

هذه الجملة الثالثة من خطاب الإمام (ع) للناس في عاشوراء و هذه الجملة ذات وجهين :

الوجه الاوّل : إن ّ هذه الدنيا لم يعد فيها شي ء يرغب فيه المؤمن ؛ فليس في متاع هذه الدنيا ولذّاتها ما يجذب المؤمن و يستميله إليها، وهذا هو الوجه الاول من هذه الجملة و هو وجه الزهد في الدنيا و العزوف عنها.

و الوجه الثاني : الشوق إلي لقاء الله، الذي هو احب شي ء عند المؤمن و ارضاه إلي نفسه .

و هذا هو الذي يصرّح به الحسين (ع) في خطابه للناس في عاشوراء.يعني ليرغب المؤمن في لقاء الله من الدنيا.

ثم يقول الإمام (ع): «فإني لا اري الموت إلاّ سعادة و الحياة مع الظالمين إلاّبرما».

إن ّ الموت نافذة إلي لقاء الله، ترتفع به الحجب عن قلوب المؤمنين فيلقون من جلال الله وجماله ما لا يلقونه في الدنيا، و في هذا اللقاء كل سعادة المؤمن ولذّته في الآخرة . و اين لذّة الجنّة و نعيمها من لذّة لقاء الله في الآخرة ؟

فليس الموت للمؤمن إلاّ سعادة .

وليس في الحياة الدنيا ما يشدّ المؤمن إليها غير صحبة الصالحين و الاخيار، و غير الاعمال الصالحة ، و المعروف و الصلاة و الذكر و العبادة و الإيثار و التضحية ، و مواقف التضحية و الشهادة و العدل و الامانة و الصدق . هذه هي المشاهد التي تشدّ المؤمن إلي الدنيا؛ فإذا شحّت الدنيامن الصلاح و التقوي و الامانة و الصدق و التضحية و الإيمان و الإخلاص و قل ّ الصالحون فيها، ولم يلتق المؤمن فيها بغير المكروه و الكيد،و اللعب ، و التكاثر، و الحرص ، و الجشع ، و الظلم ، و الكذب ، و الخيانة ، ضاقت نفوس المؤمنين بها، و كرهوها و نفروا منها، و كانت الدنيا سجناًلهم ..

يقول الإمام (ع): «فإنّي لا اري الموت إلاّ سعادة و الحياة مع الظالمين إلاّ برما».تعزف نفسه عن هذه الدنيا، زُهداً، وتتوق إلي لقاء الله شوقاً.


پاورقي






محمد مهدي الآصفي